| |
كارثة سبتمبر والسؤال الخطأ: لماذا سقطت أمريكا في امتحان محاربة الإرهاب؟ د. صالح بن سبعان*
|
|
حوادث التفجيرات الإرهابية لم تبدأ يوم (11 سبتمبر2001م) في العالم، أو حتى في أمريكا نفسها، بل كانت موجودة وعلى الأخص في مصر ثم في السعودية، لتنتشر غير مستثنية قارة. وكانت أغلب الاحتجاجات المعلنة كأسباب وراء هذه التفجيرات والاغتيالات متفقة ومجمعة على سبب، كان هو القاسم المشترك بين مختلف الأسباب التي تطرحها الجماعات الإرهابية. إلا أن الإدارات الأمريكية ظلت تصم أذنيها وتغلق عينيها عن هذه الأسباب بحثاً عن شماعات واهية بديلة من اختيارها هي. كانت الأسباب المعلنة هي سياسة الولايات المتحدة وحلفاؤها تجاه القضايا العربية الإسلامية، والانحياز الكامل لإسرائيل وتمكينها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً لتنفيذ مخططها الاستئصالي للشعب الفلسطيني وإذلال دول وشعوب المنطقة باحتلال أراضيها بقوة السلاح الأمريكي، وتأمين الغطاء السياسي لهذه الانتهاكات في مجلس الأمن بالفيتو الأمريكي الدائم والثابت. وعندما نفذت (القاعدة) هجومها في (غزوة مانهاتن) مستهدفة برجي التجارة ومبنى البنتاغون في أجرأ عملية انتحارية في التاريخ الحديث، طرح الوعي الأمريكي على نفسه السؤال: لماذا يكرهوننا؟ ولكن بوش طرح هذا السؤال تحت تأثير الصدمة، حيث كان في قمة الانفعال الغريزي. السؤال بحد ذاته كان خطأ. فلا أحد يكره الأمريكان كشعب، والسعودية خاصة التي تربطها علاقات خاصة بالولايات المتحدة، وكان أفراد جاليتها الدارسون ورجال الأعمال والسياح محل حفاوة، ويحظون بمعاملة خاصة في الدوائر الرسمية الأمريكية لا يمكن أن يكنّوا مشاعر الكره لا لأمريكا الدولة ولا للشعب الأمريكي. إلا أن بشاعة الحادث وحجم الخسائر البشرية والمادية فيه، جعلت هذا السؤال يقفز إلى السطح، إذ لا يمكن أن يتجرأ على إحداث أو ارتكاب عمل بهذه الفظاعة إلا شخص امتلأ قلبه بحقد هائل وأسود ورغبة عارمة في الإبادة المبرمة لنفسه ولمن يستهدفهم. حسناً نستطيع أن نتجاوز شمولية وتعميمية هذا السؤال طالما كان ثمة ما يبرر طرحه تحت تأثير الصدمة والرعب الهائل. نعم كنا نستطيع أن نتجاوزه لولا الإجابة العاطفية الفجة التي عبر عنها بوش، بأن من قاموا بهذا العمل يكرهوننا لما ننعم به من رفاه وحرية وقوة. إنها (الغيرة) إذن ومعها (الحسد)! لا يمكن لعاقل أن يفسر أحداثاً تاريخية دموية ومتسلسلة مثل حوادث الإرهاب التي طالت السعودية ومصر والجزائر والمغرب والأردن وباكستان وأفغانستان وزنزبار وإندونيسيا والسودان بأسباب عاطفية وذاتية مغرقة في النرجسية مثل الغيرة والحسد، وإلا لأعدنا قراءة تاريخ الحروب والتحالفات منذ فجر التاريخ البشري، وكتابته وفق هذا المنظور العاطفي الانفعالي. هل تمثل هذه الإجابة ردة فعل بوش الشخصية، أم أنها أُمليت عليه من العصابة الصهيونية التي تحيط به، وتمسك بمفاصل السلطة في الإدارة الأمريكية؟ لا أحد يملك الإجابة عن هذا السؤال. إلا أن ضرورة طرحه تفرضها حقيقة لا تحتمل اللبس، وهي أن هذا اللوبي الصهيوني وظف تداعيات هذه الإجابة في مصلحة إسرائيل بشكل كامل، وألحقت الأضرار بالمصلحة الأمريكية، خاصة بين الدول التي أذعنت منها لهذه السياسة الأمريكية والأوربية، وقد دفع الثمن حتى الآن ثلاثة من القيادات التي أذعنت في بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا. لقد أعلنت أمريكيا الحرب على الإرهاب بعد (غزوة مانهاتن)، وأعلن العالم كله وقوفه إلى جانبها في هذه الحرب، ولكن الجميع كانوا يطالبون بعنوان محدد لهذا العدو. إلا أن إدارة بوش تركت العنوان مفتوحاً لتنفيذ الأجندة الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، واختارت اسماً للعدو الإرهابي أطلقت عليه اسم (الإسلام) ثم (الفاشية الإسلامية) بما ينسجم والمخطط الإسرائيلي، وبدأت الحرب بأفغانستان، ثم العراق، والآن في الطريق إلى إيران وسوريا، وبسبب منظمات ممانعة في دول غير عدوة مثل منظمتي حماس وحزب الله شنت إسرائيل حربها الأمريكية التدميرية على فلسطين ولبنان. والآن حين يتأكد الجميع بأن أمريكا تركت العنوان مغفلاً، فلأنها كانت تسعى إلى تكريس هيمنة مرحلتها الإمبراطورية، وأن غزو العراق كان مخططاً له حتى قبل (11 سبتمبر). وأمريكا في تحليلها لأسباب الإرهاب وضعت غياب الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان وتفشي الفقر والأمية في الدول النامية على رأس هذه الأسباب، فأخذت تتبنى المنظمات المدنية التي تدعو إلى مساواة المرأة وحقوق الإنسان والحريات السياسية والثقافية، وأهملت البند الفلسطيني الإسرائيلي وهو على رأس قائمة الأسباب التي يرفعها أي إرهابي طامع للسلطة في منطقة الشرق الأوسط القديم سواءً كان هذا الشرق الأوسط أم جديدا، وكبيرا سواءً كان أم صغيرا. لأن الانحياز التام والكامل وغير المشروط لإسرائيل يتصدر قائمة الإستراتيجية الأمريكية في هذا الشرق الأوسط، أياً كانت الصفة التي تريد الإدارة الأمريكية أن تطلقها عليه. الشذوذ - إن لم نقل سوء النية - يأتي حين تنظر كيف عالجت هذه الإدارة مسألة الإرهاب التي حددت لها وجهة سياسية أو ترياقاً سياسياً يتمثل في تطبيق الديمقراطية وفق طبعتها الغربية الأرو- أمريكية، ولم تترك هامشاً أمام الجميع لمعالجة الإصلاحات وفقاً لمعطيات الواقع المحلي لكل مجتمع ودولة. وحين جاءت الديمقراطية بحماس لم تقبل أمريكا - ولا أوروبا بالطبع - بنتيجة الانتخابات الفلسطينية. وحين أحرز الإسلاميون فوزاً مقدراً في الانتخابات النيابية المصرية تسارعت قلوب واشنطن دقاً - ولذا حين ألغت السلطات المصرية بعدها الانتخابات البلدية المحلية، لم تحتج واشنطن على عدم قانونية هذا الإجراء بل رحبت به بطريقة مواربة. وحين أبدت موسكو بعض تحفظاتها على جدوى المعالجات الأمريكية القسرية كمنهج ثابت في العلاقات الدولية، سارعت واشنطن إلى فتح ملف موسكو الديمقراطي في التقرير الإستراتيجي الذي رفعه بوش قبل أسابيع قليلة. وهكذا تحولت مبادئ إنسانية عالمية وسامية وأخلاقية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية إلى (مجرد) وسائل (توظفها الولايات المتحدة لتكريس هيمنتها وبسط سيطرتها العالمية، وتحقيق أهدافها السياسية ومطامعها الاقتصادية الخاصة، على العالم كله. وإذا كان هذا هو نمط السلوك الإمبراطوري في العالم القديم فإن لعب هذا الدور كانت تترتب عليه استحقاقات، ويفرض نوعاً من الواجبات على الإمبراطورية المسيطرة، وأول واجبات الإمبراطورية المستحقة هو بسط الأمن وتحقيق الاستقرار، لأن الإمبراطورية إذا فشلت في ذلك، فإن الفوضى الأمنية ستنتقل من مستعمراتها إلى قلبها هي، وما يحدث اليوم هو أن أمريكا أول إمبراطورية في التاريخ تنشر الفوضى في العالم. ولو أن الإجابة عن السؤال الأعرج لماذا يكرهوننا؟!. قادت الولايات المتحدة إلى البحث عنه في داخلها لعرفت بأنها إنما تحصد ما ظلت تزرعه منذ عقود طويلة وأن {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} كما قال الحق سبحانه وتعالى، ومن أصدق من الله قيلا؟ ولو فعلت ذلك لاتجهت إلى تفحص إستراتيجياتها وسياساتها العالمية ومارست نقداً ذاتياً، ولكفرّت عن سيئات أعمالها، وما يفرض عليها ذلك فرضاً الآن هو ما تعانيه جراء هذه السياسات التي اعتمدتها نتيجة لسوء التحليل، سواء بغفلة وغباء، أو مدفوعة إليه بفعل العصابات الصهيونية، أو لهدف خاطئ حددته لنفسها، أخطأت حساباته أيضاً. فنتيجة فرضها (ديمقراطيتها) الخاصة قسراً وعنوة حملت أعداءها إلى أبواب السلطة وغذّت شرايين المتطرفين والممانعين في الشوارع العربية والإسلامية. وتدخلها في أجندة المجتمعات، المحلية والخاصة تحت ذريعة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والإصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي، زاد من كره الناس لها، وضيقهم بظلها الكثيف الذي يتدخل في أدق خصوصياتهم العقائدية والاجتماعية. أما حلفاؤها الذين تنكبوا خطاها فقد خسروا أمنيا إذ طالت عواصمهم العمليات الإرهابية مثلما حدث في بريطانيا وإسبانيا وغيرها في الدول الغربية، وخسرت قواهم وقياداتهم السياسية الحزبية الكثير بين ناخبيهم. وفوق هذا وذاك زادت الفوضى وشاع الإرهاب واتسعت الفجوة بين الدول والشعوب في شطري الكرة الأرضية شمالها وجنوبها. إن محاربة الإرهاب ليست شأناً أمريكياً خاصاً - وهي على كل حالٍ فشلت فيه - وإنما هو مسؤولية كل دول وشعوب العالم، وليس للإرهاب وطن خاص، كما ليست له ديانة خاصة، وإنما هو (حالة) اجتماعية وفردية، تتعدد أسبابه وتتنوع، ولكل حالة أسبابها المباشرة، وأسبابها غير المباشرة. كما أن لكل (حالة) أسبابها العامة التي تمثل القاسم المشترك بين الحالات جميعاً، وأسبابها الخاصة التي تنفرد بها. وإذن فبكل حالة وصفة علاجية خاصة توائم ما بين العام والخاص، من الأسباب والدوافع. وفي هذا يمكن بل يجب أن يتعاون المجتمع الدولي في اجتثاث ما هو عام ومشترك، مثل الفقر والجهل والمرض والظلم، عبر برامج ومشاريع تشرف عليها المنظمات الدولية، وتمولها الدول المقتدرة بالمال والتقنية والخبرة. وتستطيع الولايات المتحدة أن تلعب الدور الأكبر في ذلك باعتبارها الأكبر والأغنى والأقوى، على أن توظف هذه القدرات والإمكانات في سبيل دعم الحرية، ونشر العدل بسياسات دولية متوازنة. فلطالما هناك دول مظلومة وشعوب مقهورة ومسلوبة الحق، لا تنتظر استقراراً ولا سلاماً ولا أمناً. وأن يُترك ما هو داخلي ومحلي وخاص لأهله يصلحون أموره وفق إيقاع مجتمعهم في التطور بمساعدة المجتمع الدولي. ونشدد هنا على (المساعدة) لا القسر والقهر. وهكذا يحارب العالم الإرهاب، وتنتشر الحرية، ويعم العدل والسلام.
* أكاديمي وكاتب سعودي
E:dr_binsabaan@hotmail.com |
|
|
| |
|