ذات يوم؛ تراءى العراق داخل الشرق الأوسط القديم الذي صمًّمه الخيال الأوروبي الاستعماري، كما لو كان جرّةٍ أثرية خرجت للتو من تحت ركام التاريخ وهي تطفح بالعسل. ولشّدة ما بدا الصراع حول هذا الكنز وبفضل الصورة البرّاقة والخيالية، وكأنه صراع ضار ومحتوم بين حفنة من المقامرين الذين راهنوا على الوصول إلي الجرّة، ووضع اليد على كنزها الأصفر بالقوة أو الخداع حتى لو اقتضى الأمر تحطيمها، وبين متآمرين آخرين كانوا لهم بالمرصاد. وكان أمراً متوقعاً - في هذه الدرجة أو تلك من القسوة والعنف - أن يختلط العسل بالدم تحت أقدام المتصارعين.
وفي نطاق هذه الصورة كانت الطبيعة المرائية لسياسات الدول، وعقائدها وأفكارها واستراتيجياتها الحربية، وحتى صورها النمطية عن هذا البلد التعيس، تأخذ مكانتها في قلب الصراع الذي بات منذ مطالع القرن الماضي، داخلياً وذا طابع شديد التعقيد والخصوصية، وإلى الحدّ الذي غدت فيه رؤى الغرب للشرق، ومع اشتداد التنافر والتنافس والنزاع بين القوى والطبقات الاجتماعية المحلية، كما لو أنها رؤى ذات طابع محلي أيضاً، أو أنها تعبّر عن مطالب وتطلعات وطنية (محلية) حان الوقت للقبول بها.
وكان العراق بغناه المُفرط وثرواته وكنوزه المخفيّة في باطن الأرض، وقوة ثقافته القديمة وتاريخه الضارب في القدم كذلك، هي العناصر الأصلية التي شكلت صورة الصراع من حوله في الخيال الاستعماري الأوروبي، وربما حددّت مبكراً طبيعته على هذا النحو المرّوع.
لقد كان على سكان هذه البقعة المضيئة من العالم في مطالع القرن الماضي، ومع بزوغ عصر الاستعمار الكلاسيكي (الأوروبي) أن يتقبّلوا وإنْ على مضض، فكرة كونهم يؤلفون كياناً سياسياً وجغرافياً يدعى (الشرق الأوسط)؛ بينما بات يتعيّن عليهم اليوم ومع بزوغ عصر استعماري جديد، أن يتقبلوا فكرة كونهم أعضاء في أسرة شرق أوسطية موسعة أو كبيرة، تختلط فيها الأعراق بالثقافات، والطوائف بالكيانات، واللغات الحيّة باللهجات الميتة، تماماً مثلما يختلط الدين بالسياسة، والديمقراطية بالعنف وسلطة الدولة بسلطة المؤسسة الدينية. بيد أن شعوب المستعمرات القديمة التي بدأ الاستعمار بالعودة إليها في هذا الشرق الخيالي تدريجاً، سرعان ما أدركت وبعد الموجة الأولى من الرجات الارتدادية لزلزال انهيار المعسكر الشيوعي في تسعينيات القرن الماضي، مغزى هذه العودة مع صعود الدور الامبراطوري الأمريكي. كما أدركت تالياً، مغزى ودلالات تحطيم جرة العسل في قلب هذا الشرق. لقد بات العالم بأسره لا الشرق الأوسط القديم وحده، أكثر عرضة لأنواع لا سابق لها من المخاطر بفعل أنماط جديدة من الاختبارات العنيفة للسياسات والأفكار.
وفي هذا النطاق أيضاً، من الاختبار وفحص النتائج والتجارب الميدانية، تفجر الدم وراح يسيل من الجرّة المهشمة دون توقف، حيث تعالى في الأرجاء صخب المتجادلين حول العلاقة بين الدولة والدين، استطراداً في النقاش حول العنف والديمقراطية. إن مجتمعاً تحلّلت فيه كل أشكال الروابط، وتلاشت فيه الدولة نهائياً مع تفكيك ونهب مؤسساتها، لهو دون مراء مجتمع يختلط فيه الدم بالعسل، كما يختلط الدين بالسياسة، وكما تختلط الأحزاب بالمليشيات، والدولة بمراكز النفوذ.
إن فهماً مُتطلباً لحقيقة المشروع الذي سعت الولايات المتحدة الأمريكية إليه، ومعها الغرب كله من خلال احتلال العراق، يستدعي دراسة النموذج الذي أنشأته واشنطن هناك، وتشريح النتائج الفعلية التي أفضت إليها محاولة فرضه وتطبيقه بالقوة منذ إبريل 2003
لقد لاحظت نعومي كلاين في مقالتها الرائعة (السنة صفر: يوتيبيا المحافظين الجدد) أن نظرية تحطيم (جرّة العسل) من أجل أن يتجمع الذباب - أي الشركات الكبرى لتتعاظم بعد ذلك فرص العمل والرخاء في العراق - قد تبدّدت هباء منذ الأيام الأولى للغزو، حين عمّت الفوضى وانتشرت الجريمة. فالذباب أي الشركات العملاقة، لم يتجمع في صورة جيوش من رجال الأعمال المتلهفين لتذوق العسل العراقي كما تخيّل الأمريكيون. كما أن وعود الرخاء تبددت في الريح، وبدلاً من ذلك غاصت البلاد في الوحل والدم طوال سنوات من الاحتلال الرهيب، حيث انعدمت كل الشروط الإنسانية للحياة، وذلك مع بقاء شبكات الماء والكهرباء والخدمات العامة للسكان في حالة شلل وانهيار تامين.
وعلى العكس من كل التوقعات، ظهرت في المسرح قوى جديدة وقديمة راحت تتزاحم بالمناكب من حول العسل الذي ساح فوق مساحة شاسعة من الأرض، بينما ُترك مصير أكثر من 25 مليون عراقي في المجهول.
لقد لعبت الدولة الوطنية الحديثة في العر اق، استطراداً في الأدوار التي سبق ولعبتها الدولة العراقية القديمة، دور المادة الصمغية اللاصقة للثقافات المحلية، والطبقات والطوائف وسائر التعبيرات والحساسيات الاجتماعية التي ترعرعت في العراق التاريخي ثم في العراق الحديث. ويتوجب علينا أن نلاحظ نحن أيضاً، وعلى غرار ما فعلت كلاين في نقدها لهذه اليوتوبيا، حقيقة أن العرب لا العراقيين وحدهم، باتوا يعيشون الآن في شرق أوسط مخيف ومتفجرّ بالنزاعات والحروب.
إن بعض الكتاب والمحللين، ودون معرفة كافية بالأوضاع المعقدة في العراق، يعزون غالباً أسباب تمزّق المجتمع بعد التاسع من نيسان 2003 إلى خلخل بنيوي قديم في تركيبته الاجتماعية والثقافية، تلازم مع احتقانات طائفية ومذهبية أمكن السيطرة عليها مؤقتاً بقوة الدولة، لا بقوة العقد الاجتماعي. وهم يرون استناداً إلى فرضيات مغلوطة، أن عنف الدولة الوطنية لعب باستمرار دور الصاعق في هذا التفجرّ المأسوي الذي نشاهده اليوم. وطبقاً لهذه النظرية الزائفة؛ فإن العراق كانت لديه قابلية الانهيار والتفتت، وأن عنف الدولة الوطنية ساعد في سرعة انهيار المجتمع لا أكثر.
صحيح أن الدولة الحديثة في العراق أخفقت، خلال حقب مختلفة في تأسيس عقد اجتماعي ديمقراطي بين الكتل المذهبية والقومية الكبرى، كالشيعة والسنة والأكراد والتركمان والآشوريين، مثلما ألمح إلى ذلك بنفسه مؤسس هذه الدولة2 الملك فيصل الأول عام 1932، وصحيح أيضاً أن مهمة الدولة الحديثة تبدت أمام الملك فيصل الأول كما أمام الملوك والزعماء العراقيين قاطبة، كمهمة كبرى على مستوى صهر سائر الهوّيات الفرعية في هوية وطنية جامعة، وفي صياغة عقد اجتماعي ديمقراطي، ولكن الصحيح كذلك أن الدولة ومن منظور موازٍ، تمكنت حتى في غياب هذا العقد الضامن لوحدة الشعب، من حفظ التوازنات الاجتماعية في أحلك اللحظات التي تفجر فيها العنف السياسي، ولم يحدث قط، في أي وقت من تاريخ العراق الحديث تفجرّ مذهبي أو عرقي ممزق للوجدان الوطني.
لم يكن عنف الدولة الحديثة الذي أثار ولا يزال، شقاقاً ولغطاً واسعين بين النخب السياسية والفكرية، وبخلاف عنف الجماعات السياسية المخاصمة للدولة، مصمماً لأغراض مذهبية أو طائفية أو حتى حزبية ضيقة؛ بمقدار ما كان موجهاً من أجل ضمان التوازن الاجتماعي وتماسك الكيان الجغرافي. وهذه حرفياً هي الفكرة التي ظلت تتردد طوال العقود الثمانية الماضية (ربما منذ قمع ما يسمى بالتمرد الآشوري في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي وصولاً إلى مواجهة ما سمي في الستينيات بالعصيان الكردي).
لقد بررت الدولة الوطنية عنفها وقمعها لسائر الجماعات المخاصمة لها وباستمرار، على أنه دفاع عن حق الدولة التاريخي في حراسة التوازنات في المجتمع. ولذلك لم يتبدَ العنف السياسي الذي مارسته ضد خصومها انطلاقاً من هذه المبررات، مجرد تعبير عن درجة الخلل في علاقات القوة بين المجتمع والدولة، وإنما كان بدرجة أكبر من ذلك؛ تجسيداً لشكل ومستوى التناقض المأسوي في الرؤى والتطلعات. والحال هذه؛ فإن انهيار الدولة الحديثة في إبريل 2003 وبعد أكثر من ثمانين عاماً على تأسيسها، لم يكن يعني انهيار العقد الاجتماعي القديم، وتحطم أسس التعايش التاريخي بين الطوائف والجماعات المذهبية والعراقية (الإثنية) وحسب؛ وإنما عنى كذلك ارتداد العراق إلى طور سابق على طور الدولة، وعودة المجتمع نفسه إلى طور ما قبل المجتمع.
وبذلك طرأ تحول مثير على سلوك وتكوين العنف السياسي في العراق لا سابق لهن فقد. تحوّل من عنف خارجي (اتخذ صورة غزو أجنبي) إلى عنف داخلي من إنتاج المجتمع نفسه الذي تحطمت داخله، كل روابط وأسس التعايش القديمة وليظهر بدلاً منها على المسرح، خليط متنافر من القوى والجماعات والنخب المتطلعة باسم الديمقراطية إلى صياغة عقد جديد، تكشفت بسرعة عن كونه عقداً زائفاً يقوم على أسس طائفية وإثنية بغيضة، ليس من بين النتائج المباشرة لإبرامه سوى فض الشراكة التاريخية التي قام عليها العراق القديم.
وأكثر من ذلك تشريع (ثقافة الغنيمة) بين أحزابه وقواه الاجتماعية وحتى بين مواطنيه.
Fadhilarubaiee@Hotmail.com
- دمشق
(1) نعومي كلاين: بغداد: السنة صفر، نهب العراق سعياً إلى يوتوبيا المحافظين الجدد، مجلة المستقبل العربي/ العدد 308 ، أكتوبر 2004
(2) انظر: فاضل الربيعي: الجماهيريات العنيفة ونهاية الدولة الكاريزمية في العراق، دمشق، دار الأهالي 2005
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244