ذكرنا في المساق السابق أن الطفل العربي اليوم بات يُعاني لغويًّا وثقافيًّا أكثر ممّا كان يُعانيه طفل الأمس، وقبل عقود قريبة؛ لأن طفل الأمس كان يشكو (فقط) الازدواج اللغوي بين مستوى لغة الشارع والمنزل من جهة، واللغة الرسمية في المدرسة والإعلام من جهة أخرى.
أمّا اليوم فقد ازدادت الهوّة هوّة، وتقدّمنا إلى الخلف، حينما منحنا اللهجات العربية شرعيةً رسميّة، فاحتلّت المنابر والساحات، هنا وهناك، بكل ما لذلك من آثار سلبيّة لا تقتصر على اللغة وحدها، وإنما تمتدّ إلى الثقافة، بما تمثله الردّةُ إلى المحلّية الشعبيّة من قِيَم انطوائيّة، متعصّبة، رافضة للتعدّد والتنوّع، منغلقة على مسلّمات الذات، متوجّسة من الآخر، مُسْتَحْيِيَةً قِيَم القبليّة الانعزاليّة، المقاومة للتحضّر والتفاعل مع كل جديد أو مختلف.
فما النتيجة؟
النتيجة، على المستوى اللغوي - كما عبّر الخبير التربوي الدكتور عبدالله الدنان - أحد المشاركين في مؤتمر (لغة الطفل العربي في عصر العولمة)، الذي أقيم مؤخرًا بمقر جامعة الدول العربية - أن الطفل العربي سيحتاج إلى ترجمان من الفصحى إلى العاميّة، (فعلى سبيل المثال، عبارة (استيقظت المرأة وجلست قرب النافذة)، الواردة في كتاب اللغة العربية للصف الابتدائي الثاني في المدارس السورية، تحتاج إلى ترجمة مفردات (استيقظت) و(المرأة) و(قرب) و(النافذة)؛ لأنها تختلف كلّياً عن المفردات التي لها المعاني نفسها ويستخدمها الطفل وأفراد أسرته في يومياته.
والأغرب من ذلك أن ترجمة هذه المفردات تختلف في اللهجة السورية عن المصرية عن الخليجية عن المغاربية)! ولعل الدنان كان أكثر تفاؤلاً في إشارته إلى اختلاف المفردات بين الأقطار العربية؛ فالاختلاف يكون في داخل القطر الواحد أيضًا، ففي السعودية وحدها نقول، مثلاً: (قامت، قعدت، ذهنت، صحيت)، في مقابل: (استيقظت)، غير المستعملة في أي لهجة؛ و(المرأة) هي: (حُرمة، ضَعفة، ست، مَرَة)؛ و(قرب): (يم، عند، نحَ، جنب)؛ و(النافذة): (الدريشة، الشباك، الطاقة، اللَّهج)، هذا على سبيل التمثيل، والقائمة تطول وتطول! وهذا الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية يؤدّي - بحسب الدكتور الدنان - إلى أن الطفل (يفقد خمسين في المئة من قدرته العقلية؛ لأنه لا يستخدم هذه القوة في السنوات الأولى من عمره).
كما أن الطالب العربي عموماً بطيء في القراءة؛ لأنه يحتاج وقتاً أطول للترجمة من اللغة الفصيحة إلى العامية.
ولذلك، فالطفل العربي - وكذا غير الطفل - يعاني من صعوبة القراءة والفهم، أو ما يسمى : Dyslexia.
فإذا عرفنا أن أمّة (اقرأ) لا تقرأ اليوم، أدركنا أننا مقبلون - بلا فخر - على أُمّيَّة معرفيّة بالغة التعقيد.
نحن نكذب على أطفالنا إذن حين نخبرهم أن لغتهم الأُمّ هي ما لا يسمعونه إلا في الصلوات، وخطب المساجد، وبعض نشرات الأخبار!
أي حين لا نواجه الحقيقة التي يتحدث عنها الكاتب والناقد السينمائي المصري سمير فريد، حين يقول: (إن اللغة العربية في طريقها إلى الانقراض، وأنها ستتحول إلى لغة دينية تقتصر على المساجد وقراءة النصوص الدينية، شأنها شأن اللغة القبطية).
(جريدة الحياة، ع16029، الخميس 4 صفر 1428هـ= 22 فبراير 2007م، ص24).
والأطفال بفطرتهم يدركون كذبتنا الكبيرة تلك، وتضليلنا إياهم، وتناقض منطقنا، ومغالطاتنا، ومن ثَمّ يفقد كلامنا احترامهم، كما تفقد لغتنا المزعومة احترامهم، كيف، وإنّ مدرس اللغة العربية نفسه قد يشرح قواعدها بعامّيته، شاميّة، أو مصريّة، أو خليجيّة؟! فيا لسخرية أطفالنا منا، حين نزعم لهم أننا، كباقي خلق الله، أُمّة واحدة، ذوو لغة قوميّة واحدة، ننتمي إليها، ونتسمّى باسمها: عربًا! نعم، لقد أصاب الأمير طلال بن عبد العزيز، رئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية، كبد الحقيقة في إشارته - إبان مؤتمر (لغة الطفل العربي في عصر العولمة) - إلى أن: (الأسلاف العرب اعتمدوا على لغتنا الأُمّ كوعاء ناقل للعلم الحديث والمعرفة، الأمر الذي ينفي عن اللغة العربية صفة الضعف والقصور).
ذلك أن القصور في أي أُمّة هو فيها هي، لا في لغتها، تشهد بذلك اليابانية، كما تشهد بذلك العبرية، وشتان بين هاتين اللغتين البدائيتين، ولسان العرب، برصيده التاريخي والديني والأدبيّ والحضاري!
وقد تناقلت وكالات الأنباء في إطار المؤتمر المشار إليه أن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى أعلن في كلمته: أن الجامعة العربية سوف تخصّص جائزة سنوية، تُمنح خلال الاحتفال السنوي باليوم العربي للطفل، لأفضل طفل يُقدّم إنتاجًا أدبيًا باللغة العربية الفصحى، سواء أكان شعرًا، أم نثرًا.
كما كشف موسى عن أن الأمانة العامة للجامعة العربية سوف تطرح على وزراء الشؤون الاجتماعية العرب في دورتهم المقبلة فكرة البحث في إمكانية أن يكون التمكّن في اللغة العربية شرطًا أساسيًّا للالتحاق بالوظائف المتميّزة للشباب الخريجين.
كل هذا جميل، ونابه، ويُشعر المرء بأن نبض العروبة ما يزال حيًّا، على الرغم من كلّ المنغّصات، ومن أن المؤتمر لم ينعقد إلا بعد 60 سنة من النكبات؛ إذ كان انعقاده الأول عام 1947م.
نعم، الأعمار بيد الله، سبحانه، إلا أننا قد لا ندرك انعقاده المقبل، وبعد عمر طويل: عام 2067م!
لكن السؤال الأهم: هل ستُدرك اللغة العربية انعقاد مؤتمرها المقبل؟
سؤال كهذا محيّرة إجابته بالنظر إلى ما تشهده الساحة من تداعيات.
مهما يكن من أمر، أو عُمْر، فما تمخّض عنه مؤتمر (لغة الطفل العربي في عصر العولمة) يُعدّ خطوة على الطريق.
غير أن المخشيّ منه أمران، قد يفسدان الطبخة كلها! أولهما أن نظل - نحن العرب - نعلّق كل سلبياتنا على مشجبٍ اختُرع في السنوات الأخيرة، وأسعَفَنا به الغرب، يسمّى: (العولمة)!
إذ إن اللغة العربية تعاني منذ قرون من أمراضها الذاتية المزمنة! فلنَدَع الخوف إذن على اللغة العربية من العولمة - ولو قليلاً - لتلك اللغات (المنتجة)، كالفرنسية، أو الألمانية، أو حتى الإسبانيّة!
لا تقليلاً من خطورة العولمة، ولكن لكي نلتفت إلى الأهم، وهو إصلاح بيتنا اللغوي العربي من الداخل، تعليمًا، وإعلامًا، وثقافة.
وهاهنا العامل الأهم، وهو أننا ما لم نلتفت بواقعية إلى مشكلات اللغة العربية المستفحلة، والمستحدثة، والمستشرية، التراثي منها والمستنبت، فسنظل نحرث في بحر، وستبقى الأماني الجميلة تحلّق في السحاب ورؤوس أطفالنا في الوحل!
وتأتي مبادرة أخرى متزامنة مع (مؤتمر لغة الطفل العربي) من ضفة الوطن الشرقية، حيث إنه - بعد مسابقة النبط باسم (شاعر المليون)، التي ملأت الدنيا عاميّةً، وشغلت الناس بما كان ينبغي أن يُشغلوا (عنه، لا به) - تبنّت هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث مهرجان (أمير الشعراء) للشعر الفصيح، وذلك - حسب تعبيرها - تأكيداً لدور الهيئة في تعزيز الثقافة العربية والارتقاء بها إبداعاً إنسانياً وأصالة ممتدّة.
ويتضمن المهرجان مسابقة هي الأولى من نوعها على مستوى الوطن العربي، مفتوحة لكل الشعراء العرب للتنافس على لقب (أمير الشعراء).
وإضافة إلى الجوائز المالية الكبيرة، ستتولى الهيئة مساعدة الشعراء الفائزين في طباعة دواوينهم، مساهمةً في إثراء المكتبة الشعرية العربية.
مع ما يواكب المهرجان من تغطية إعلامية، عبر الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية.
لتكون المسابقة ميداناً ثقافياً وإعلامياً واسعاً، يُسهم في إثراء الشعر العربي الفصيح وإحياء دوره في المجتمع والثقافة العربية والإنسانية عموماً.
وهي بادرة لا يملك المتابع سوى أن يحيّي القائمين عليها ويشيد بتبنّيها، وإن كان من مناوئي نقيضتها: (مسابقة شاعر المليون)؛ لأسباب موضوعيّة، تتسامى على العواطف المبذولة في الطريق: لغويّة وأدبيّة وثقافيّة!
وللحديث حول ذلك صلة في المساق الآتي، إن شاء الله.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244