(أسماء وحرقة الأسئلة)
هذا الديوان من الطراز الحديث, يفاجئك بالأسئلة قبل ولادته.. أهو شعر أم نثر؟.. دخيل أم أصيل؟ مبتدع أم متبع؟ وهل وهل.. دون أن تنتهي تلك الأسئلة التي احتلت جزءاً منه, وبذلك ينجح الآخر وللمرة الألف في رمي الكرة في ملعبنا مكتفياً بالفرجة على نزال تتناحر فيه أقلام شطرتها تلك الشفرات الحادة والسدود المظلمة أدت إلى عزل النص تماماً عن المتلقي الذي يريد أن ينهل من هذا الجديد فتصفعه الحقيقة بزجه في المعمعة جاعلة منه صاحب قرار، فيتردد في التعامل معه مستحضراً ما عاناه الأوائل بملء الكتب بالكلمات في حين يجده اليوم عبارة عن كليمات موتورة ونقط وفراغ أبيض ينزع نحو السيميائية كمهرب لحفظ ماء الوجه, وعلى المتلقي أن يملأ الفراغ بما يناسبه أو ما لا يناسبه ليزيد من كمية المياه الصالحة لحركة التجديف تحت ستار من الغموض والنضوب والخوف مما يجعله ماء شديد الأسونة.
يظهر للعين كالسراب الخادع تضيق ضفافه بأيدي آخرين شاركت في هذه الجريمة المسبوقة بكل احتماليات الظنون والترصد لحسر الورقة من أغطيتها وتركها عارية تدرسها العقول من نواح شتى وتأتيها من قبلها أو دبرها أو من أي موضع شاءت لفعل شيء في انتكاسات مفلسة لمفعم بالمعاناة الطاغية لحل معضلات الكون بترياق مميت، جاعلاً للمتلقي ألف وجه.
(للشاعر وجه وللمتلقي ألف وجه، مَن ذا الذي يسد فمي؟) ص40 من نص الشاعر.
مبقياً خطوط الرجعة مفتوحة، منتظراً من المفكك والمحلل والبنيوي بعث الروح في تلك اللحود المرصوصة بعناية تنتظر الصلاة عليها, في حين تسعى خلايا ذهن المبدع الذي لم يلق من تجربته التي حملها على مر العصور سوى هواء بارد يملأ فمه فيغنيه عن ذلك الماء الذي خرج في لحظة ولادة القدر المتربص بالإبداع في زوايا كالحة من حيث الضيق الفكري والخواء المادي جلله بالبياض ونداه بنقط سود وإشارات خرساء ليجعله أكثر تهتكاً وانهزامية باتكاءات ملحة من المبدع على الاسم الرمز (مريم) زاد من تهرؤات النص بفعل التبعية للآخر الذي يناضل كثيراً لجعل هذه السمات للنص المتقوقع سمة الخصوصية.
وتأتي أقصوصة (كدح الأشياء) لعبدالله الوصالي على قربها من الواقع لشد تجاعيد تلك الأسئلة غير الملحة في تلك الأزمنة المحناة بلهيف الحس المتمرد والخالي من كل معنى سوى معنى المعاناة الذي يحبذ الري من الماء الآسن في لجة طوفان الفكر المتأمل في الليل أحوال النهار والمتلمس إذكاء العقل بوقود تلك الأسئلة بعد حرقها في أتون الأسماء الذي غير الطغيان الفكري العارم سلاحه وعلله بالأماني الخادعة ليثوي به في عرس الزمان المتأزم داخلياً من القاع المظلم الذي ارتضاه هادياً ودليلاً أسفرت عنه أنياب الدهر بمداد اللعن والقتل والتشويه وكل القواميس المطواعة واللينة ليونة العجز، محيلاً تلك الأسماء إلى جذوع متيبسة لنساء عزلاوات من كل شيء إلا من البداية.. تلك البداية التي طبعت عليهن ذلك الموروث البالي الذي اتخذه المبدع هنا رمزا لمعان ملتوية حينا ومفتعلة حينا آخر ليخرج إلى الكون إنتاجا لا يعرف له هوية، مضغوطا في كليمات تموج بالإيحاءات المطلسمة بمداد النفس المترددة التي تبحث بجد عن الشفاء لصيقا لها فلا تجده إلا في تلك الأسماء والأخيلة والسراب الفاجع للأدب متجذرا كل حديث نام يحده عقل موبوء برماد الآخر طارحا عنه كل القضايا.
ولعل الجن والجنس والجسد أبطال تسرح وتمرح في ربوع تلك الأفانين المنسربة ببطء لا متعقل ونظرة قاصرة.
والحربي إذ يطل علينا بديوانه الأول المحمل بكل هذه التداعيات والاستفزازات جاء شاهدا على عصره بنصوصه المنضدة بالتبعية تارة والانهزامية تارة أخرى ليضع بين أيدينا نماذج مجرسنة من فم مغيب تماما, أراد فلم يكن وقال ولم يفصح محاولا أن يكون بريئا باستدعاء أمثلة تسبق نصوصه المرصوصة كجثث تبحث عن التراب لتغوص فيه قبل الرحيل, متوارية تخلق لدى المتلقي رغبة ملحة للتقيوء بمثله فلا ينجح ليعود إلى الساحة، منتظراً أن تبعث هذه النصوص الأسماء في ثياب حديثة صادقة تدعو للحق والخير والجمال رافضة التبعية والانهزامية والتمرد.
وتبقى البدايات شفيعا لا يرد لمن اتخذ الفن طريقا لقطع لجة الحياة.
ويظل صالح الحربي قبل هذه الأسماء وبعد هذه الأسئلة فنانا متعدد المواهب أفرزت منه هذا الصالح وضده.