تقول صديقتي حصة:

كان يوما كارثياً هو اليوم الذي عبّرتُ فيه عن رغبتي في (العمل) انتهى بدموع غزيرة وبمرارة علقت بالحلق ولدتها كلمة (لا) والتي اجتمع عليها أفراد العائلة باستثناء شقيقي الأكبر ولأنني لم أكن أرغب في إثارة المشكلات بين أفراد عائلتي آثرت الصمت.

لكن هل استسلم؟ لا - قلتها بيني وبين نفسي بإصرار وعزم ثم وبعد أربع سنوات أخذت أخطط مع شقيقي الأكبر بالحصول على وظيفية في إحدى الدوائر الحكومية، وبما أنه رجل معروف ومحبوب لم يجد صعوبة في توظيفي، وللعلم أنا ضد الواسطة وهي وسيلة قبيحة لطلب الرزق أو الاعتماد على النفس لكن ما باليد حيلة (مجبر أخاك) فالحياة تجبرك أحيانا على تقديم التنازلات عن بعض مبادئك!! وعملية التوظيف في معظم أرجاء الوطن العربي لا تعتمد على الكفاءة والشهادة العلمية بل على (ولد فلان وبنت فلان) وعلى (من جماعة الشيخ فلان) وأيضا تتأثر بشكل قوي على (حلوة ومتحررة) و(تتعشى عشاء عمل وتتأخر بالليل) و... والحمد لله أنني من الفئة الأولى دعونا من الفئة الأخرى الآن سنمر عليها لاحقاً، المهم تم إخطاري هاتفيا بعد عدة أيام بأن مقابلتي ستتم في الموارد البشرية لمعرفة ما إذا كنت جديرة بالوظيفة أم لا، ولا يخفى عليكم يا إخوان ويا أخوات أن هذه المقابلة كانت مقابلة صورية وموضوع توظيفي أمر فرغ منه في مكتب المدير العام وجميع الذين أجروا لي المقابلة كانوا يعلمون بهذا الأمر فقد كتب على أوراقي التي كانت أمامهم بقلم احمر (تُوظف) أما أنا فلم أكن أعلم بذلك.

كان هناك عدد من المتقدمين للعمل في ذلك اليوم وكنت أنا أول الداخلين إلى غرفة الاجتماعات التي كان يجلس بها سبعة مديرين إلى جانب رئيسة قسم التوظيف وهي شابة جميلة لكنها تحمل في شرايينها دماً ثقيلاً شعرت به من نظراتها الأولى وبما أن هذا الحدث كان الأول من نوعه في حياتي فقد كان من الطبيعي أن تتملكني تلك الرعشة وذلك الخوف الذي كنت أحاول بشتى الطرق وطيلة وجودي في تلك الغرفة إخفاءه وقد لجأت إلى عدة طرق بدأتها بعدم النظر إلى وجوه المحققين كما يحلو لي تسميتهم ثم وبعد ذلك بقليل أخذت أتعامل معهم باستهتار مع بعض المزح لأثبت لهم بأنني لست مهتمة لأمرهم ولا لأمر الوظيفة!!

نجحت بعض الشيء لولا وجود بعض الاهتزازات التي كانت تتسلل من خلال حبالي الصوتية والتي كادت أن تفضحني - نعم فضيحة أن أكون خائفة - فأنا امرأة أطمح بأن أكون موظفة قيادية وهذا الأمر يتنافى مع الخوف والضعف كما أنهم - لجنة المقابلات - يختبرون هذه النقطة بالذات في الموظف لأنها الأسوأ فالموظف يجب أن يتعامل مع عملاء الدائرة وهذا الأمر يحتاج إلى جراءة وإقدام وقد كانت لديهم خطة لمعرفة هذا الأمر علمت بها لاحقاً فقد كان يُطلب من الموظف أن يمسك بيده ورقة كتبت عليها جمل باللغة الإنجليزية ليقرأها فإذا كان الموظف خائفاً ويرتعش من الطبيعي أن ترتعش الورقة في يده عندها يتم البحث له عن وظيفة متواضعة تتماشى من إمكانياته النفسية كالأرشيف والمخازن أو يتم رفضه وهذا هو الذي يحدث غالباً، طلب مني مدير الموارد البشرية أن أمسك بالورقة التي أمامي ليعرف مدى تمكني من اللغة الانجليزية - الورقة سالفة الذكر - وبما أن يداي كانتا ترتعشان وكانتا تحت الطاولة التي أمامي وبما أن إخراجهما إلى سطح الطاولة والإمساك بالورقة سيكشفني قلت له بذكاء المرأة الفطري (لا أجيد القراءة باللغة الإنجليزية) بسرعة أجابني مع جميع الموجودين وكأنهم يتحدثون بصوت واحد لا يهم أمسكي الورقة وحاولي. (رفضت بشده) صدقوني لا اعرف (أحسست هنا وكأنني اجلس بين أعداء تملكني الغضب وتذكرت فجأة وصايا السكرتيرة التي كنت اجلس بمكتبها قبل ذلك بقليل (انتبهي سوف يحاولون استفزازك وإذا غضبت انسي أمر الوظيفة) أخذت نفسا عميقا ابتسمت ابتسامة عريضة أسندت ظهري إلى الكرسي وأرسلت نظراتي إلى ثقيلة الدم التي كانت تتحدث لحظتها: (كيف تخطيت المراحل الدراسية إذا كنت لا تجيدين اللغة الانجليزية؟! أجبتها بتلك الابتسامة الصفراء: وهل جميع الذين تخطوا المراحل الدراسية يجيدون الانجليزية؟) قالت: أمسكي بالورقة واقرئي لو سمحت لدينا مقابلات مع موظفين آخرين والوقت تأخر. وكانت تنظر إلى أوراقها وعندما رفعت عينيها باتجاهي كنت أنا قد سحبت الورقة إلى أسفل الطاولة وأخفيتها مع أصابعي المرتعشة!! قرأت بعض الجمل وقبل أن انتهي قاطعني أكبرهم بالسن (ما شاء الله هذا أنت تعرفين) أجبته بسرعة (ليش هذا اللي قرأته أنا الحين إنجليزي؟!) ضحك الجميع وكانت ثقيلة الدم من ضمنهم ثم بدأ خوفي يتبدد وكثر الأخذ والعطاء وبعد الانتهاء من المقابلة وقبل أن أهم بالخروج من غرفة الرعب دخل أحد أفراد اللجنة وقد كان في اجتماع آخر قدموني له وسألوه إن كان لديه سؤال لي؟ قال: لا اعلم هل انتهيتم انتم؟ قلت له: نعم انتهوا من استجوابي. ضحك وقال: طيب ما هي عملة الهند؟ قلت الجنية الإسترليني! التفت الجميع باتجاهي وقد فتحوا أعينهم وأفواههم فتداركت الموقف: أمزح أمزح الربيّة.

انتهت المقابلة على خير وتم صرف الذين تمت مقابلاتهم معي قيل لهم سوف نتصل بكم لاحقاً أما أنا فقد رافقتني ثقيلة الدم إلى الدور الثالث عشر حيث مكتب المدير العام وكانت تتأبط ملفي.

دخلت قبلي وما لبثت أن خرجت وهي تشير إليّ بالدخول كان المدير يتصفح جريدته اليومية رفع رأسه وكان مبتسما: أهلا بك يا حصة كيف حالك وحال إخوتك؟ كان وجهه بشوشاً وأسلوبه لطيفا سألني: هل تشربين شيئا؟ قلت له: لا شكرا أرغب في العمل، زادت ابتسامته اتساعاً. أبعد الجريدة التي كانت أمامه سحب ملفي فتحة وسألني: وماذا تريدين أن تعملي؟ قلت: إذا الموضوع موضوع اختيار أرغب بان أكون مديرا عاما مكانك قال وهو يضحك: إذا عملتي بجد وجهد ستصلين إلى أعلى من هذا وأخذ يشرح لي بعض الأمور المتعلقة بالدائرة ثم قال: أعرف ظروفك التي لا تسمح لك بالاختلاط مع الموظفين لذلك سوف اختار لك مكانا يناسبك. ضايقني هذا الأمر بعض الشيء وعرفت أن أخي قد طلب منه ذلك لكنني لم أعترض فأنا أرغب بالعمل بأي طريقة وفي أي مكان. رفع المدير العام السماعة وتحدث إلى شخص ما يبدو أنه مديري القادم وقال له: لدي موظفة جديدة أخت فلان أعتقد بأنك تعرف عائلتها هم محافظون جدا ولا يرغبون بأن تعمل ابنتهم مع موظفين في مكتب واحد لذا اجعل لها مكتبا مع سكرتيرتك ودعها تعمل لديك أريدها أن تكون تحت إشرافك المباشر كما أرجو أن تعتبرها أمانة لديك.