عندما تتشظى الأشواق
خليل إبراهيم الفزيع
175 صفحة من القطع المتوسط
(مرارة المظن) ماذا يقول فيها الشاعر الفزيع؟
كم أعاني لكي ترى حسناتي
لست أسعى لأن أجمّل ذاتي
لي مزايا ولست أزعم وهماً
مثل غيري.. تعددت هفواتي
تعتريني من الفصول طباع
كل فصل لديه بعض صفاتي
في طباعه ما هو حار كالصيف.. رقيق كالربيع.. بارد كالشتاء.. جامد كالخريف.. اعتراف جميل ووصف أجمل.. ولكن أين المظن المرير؟!
ضقت ذرعاً بسوء ظنك لما
كل حين تطاردين هناتي
لست أشكو مرارة الظن لكن
هو آثم من أسوأ السيئات
الظنون القائمة على الشك غيرة.. والظنون القائمة على التدمير جنون.. أيهما جاء ظنها؟! يبدو أن ظن الحب الأعمى:
تلك نفسي.. فكيف أنبذ نفسي
وحياتي.. وما رفضت حياتي
فاقبليني كما أنا همجياً!
أو غبيا.. فلست أنكر ذاتي
لا ندري.. أقبلته وقبَّلته.. أم أدارت ظهرها نحو متوارين؟!
(لبغداد سلام) سلام الجريحة التي أوجعها جرح قديم أعقبه جرح جديد أخطر وأكبر:
دار السلام إذا تجرعت صنوف السيئات
تتمردين. وترفضين خنوع الأمس
وتعانقين نشوة النصر على الضفاف
تختالين بابلية القسمان..
وصف خارج المعاناة.. والآن:
مرت عهود نيرون حالكة السواد. ولم يكن
فيها بصيص النور. لكن الصبح آت
إذا سعى إليك (هولاكو) يجر جيوشه نحو الهلاك
فأنتِ مقبرة الطغاة
طغاة الأمس رحلوا.. وطغاة اليوم ارتجلوا.. وسيرحلون.. وستبقى عاصمة الخلافة العباسية داراً للسلام لأبنائها ولو كره المكابرون..وعن بغداد أيضا يقول:
في جراحك بغداد اطردي القلقا
وعانقي المجد وضاء السنا ألِقا
وناشدي الركب قد آن الأوان له
أن يستريح خلي البذل منعتقاً
أرسى قواعدك المنصور فابتسمي
لمجد من كان سباقاً ومستبقاً
ما شيده المنصور من قواعد وصروح أجهز عليها تتار الأمس.. وهولاكو الأمس.. ونيرون اليوم.. التاريخ سُرق.. والشعب ما بين ضحية.. ومريض.. ومُروع.. التاريخ لن يرحم قتلة التاريخ مهما استبد بهم طغيان القوة.
ومن شاطئ دجلة والفرات الحزينتين إلى عيون الأحساء (من الماء إلى الماء) يقول ابن الأحساء:
يا عيون الحسا وأنتِ عيوني
خبرِّي ذلك الفتى عن شجوني
خبريه إن الحسا تتباهى
إذ يُغنى لها جميل اللحون
لا أرى في الحسا عيونا ولكن
أصبح الشح كالقذى في العيون
شوهتها حوادث الدهر قسرا
حين عادت بصفقة المغبون
وعيون دموعها في المآقي
إذ تنادي من الجفاف المقدوني
مفردة (الجفاف) تحتاج إلى ماء.. ولكي تروى أبدلها بمفردة (من الظمأ).. تحسن الحال.. ومن احسائه.. إلى سؤاله:
أتحبني؟! ويسيل كالشهد السؤال
ويفوح في الأجواء عطر من دلال
وبدت على الوجه الجميل غلالة
توحي بأروح ما يجود به الخيال
يرسم لجمالها صورة فاتنة.. عيناها الناعستان جبينها الأشبه بالمرأة أو المدمر.. إنها رمز حسن ودلال تذكره بعشتار وفينوس..
أتحبني؟! نغم شجي. مفعم
بالشوق والتحنان والأمل المحال
مذهبّ مكلوم الفؤاد بلهفة
يسعى إلى فينوس يستجدي الجمال
ورنا إلى عشتار ينشدها الهوى
فلعلها تسخر بأجمل ما ينال
ظمئ إلى فيء المحبة.. يرتجي
وعدا وان أفضى إلى الطرق الطوال
لحب لا ينال بالتمني.. وإنما ينال بالوفاق والوصال.. ستجهد كثيرا في طرقك الطوال.. الحب يكره الاستجداء.. ويرفض التوسل.. حتى وإن أطل بطيفه.. وانتشت لطلعته الجبال.. وعانق الندى ازهاره.. إنه سرعان ما يغيب لأن أغنى الحب وأغلاه في مخيلة المشاعر ما كان شاردا متمردا لا يقبل الاستسلام.. الطبق الذي لا يتاح لك أكله هو الأشهى لا لأنه الأطيب.. ولكن لأنه خارج رغبتك وطوعك الغائب أكثر حضوراً من الحاضر حتى يحضر.. أليس الغياب.. أليست الغربة.. أليس البعاد.. أبيات شعر خالدة؟
قد كان قبل عبوسه مبتسماً
وأذاقني في الحب أشهى ما ينال
أراد لك أن تنال جرعة حتى يطالك لهيب عطشك أكثر وأكثر.
أخيراً.. مع مقطوعة شاعرنا خليل إبراهيم الفزيع في ديوانه (عندما تتشظى الأشواق) تحت عنوان (ليلة ليلاء)..
في ليلة مجنونة الرياح والمطر
تنوع في سمائها عواصف القدر
ومقدم هناك يحتمي بكوخه الصغير
وفي الشتاء كم بين ذلك الفقير
وكوخه لم يحتمل لشرب المياه
كأنما عليه أن يخاصم الحياة
يا عزيزي صاحب الكوخ في موقف ضعف.. والتضعيف لا يملك قدرة الخصام.. وددت لو ابدلت يخاصم ب(يكابد أو يواجه مثلاً):
وكم أرى جحافل الاشباع في الظلام
تلوح من عيونها الشواظ كالسهام
لم ينس في سرد مأساة الفقير الإشارة إلى أطفاله الصغار الذين حاصرتهم المياه.. أبقت على كوخهم المتداعي.
أطفاله من خوفهم. في الرعب يغرقون
بأمهم تمسكوا. وبالحنان يحتمون
وأمهم يفري حشاها الجوع والسقم
بجسمها مواقع للداء. والألم
تمزقت أسمالهم.. فما تقي الجسد
من غضبة الرياح. أو من شدة الكمد
ماذا يفعل فقير في موقف كهذا؟
ينكس الأب الملتاع طرف الحسير
ويندب الأنواء! إذ يجور طقسها المطير
من فقره، وجوعه، وقسوة الزمن
تراكمت همومه.. وزادت المحن
أمام قسوة حياة لا ترحم.. وجفوة أحياء لا تعنيهم حياة البؤساء.. والفقراء من حولهم.. لا شيء يقدر عليه صاحب الكوخ إلا أن يشخص ببصره المواهي نحو السماء.. بعد أن تجاهله من في الأرض.
فليس غير الله وحده يبدد المآسي
وما أفاء المرء قوله (لعل. أو عسى)
لله في سمائه عدالة يهدي بها البشر
لكنه الانسان في ضلاله لا يعرف الحذر
أخيراً.. وفي نظرة متكسرة متحسرة يرقب تجاهل من حوله:
يا من يموت متخما من كثرة الطعام
ألا ترى أخاك جائعاً لا يعرف المنام؟
الشاعر.. يتساءل أخيراً:
وعبء ذلك الفقير أن شكا من يحمله؟
أنا أم أنت؟ أم جميعنا سنخذله؟
السؤال حائر.. كجور الناس يا عزيزي الشاعر.
***
لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321
فاكس 2053338