وعليه أن يخلي مكانه، طوعاً أو كرهاً، لقادم جديد يحمل بين جنباته دماء جديدة.. هو (النقد الثقافي).
هذا هو مشروع الدكتور عبد الله الغذامي الذي يريده بديلاً جذرياً عن (النقد الأدبي) مع سبق الإصرار والتصميم، يحلّ محله ويؤدي وظائفه القائمة، ويتجاوزها لاحقاً إلى ما هو أوسع منها عن الكشف عن (الأنساق الثقافية) التي تحكم التفكير العربي في الأدب: طبيعةً ووظيفةً وحدوداً وصلات بمختلف أوجه نشاطات الأديب والناقد في المجتمعات العربية قديمها وحديثها.
ويرى الدكتور الغذامي أن (النقد الأدبي) لم يعد قادراً على تلبية متطلبات (المتغير المعرفي والثقافي الضخم)(1) الذي تشهده المجتمعات العربية، وعلى الرغم من أنه يعلن (موت النقد الأدبي) فإنه لا ينكر عليه إنجازاته الكبرى التي تؤهله ليكون أداة فعالة يمكن التمسك بها في ممارسة (النقد الثقافي) منبهاً على حظر استخدام هذه الأداة النقدية على النحو المعهود الذي سيتحول به الحدث الثقافي المقروء إلى حدث أدبي، وسيلبس الثقافة ثوب الأدبية.
إن مشروع الدكتور الغذامي يستند إلى وعي واضح بالتغيرات التي شهدتها عمليات الإنتاج الأدبي والثقافي في المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة، والتي تتطلب صنفاً آخر من النقد غير (النقد الأدبي) وهذا الصنف هو (النقد الثقافي)، فقد استنفد الأدبي مسوغات وجوده وأخفق في تأدية وظائفه ومهماته.. ذلك أن الأدب بوصفه فناً جميلاً لم يعد ذلك الإنشاء المقروء الذي ألفناه، ونشأنا على الاحتفاء به على النحو الذي توصي به المدارس والجامعات ومختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، قد انفتح من جهة على مختلف الفنون الجميلة كالغناء والرقص والموسيقى، النحت والعمارة والرسم، فضلاً عن تداخله الحميم مع فن المسرح وصلاته الفنية والمعقدة مع الفن السابع والروابط المتنامية مع وسائل الاتصال المتعددة من خلال الحاسب الذي بات يقدم لمستخدمه مادة مقروءة ومسموعة ومرئية في آن معاً.
كما انفتح من جهة أخرى على العلوم الاجتماعية والإنسانية والمعارف العلمية: الطبيعة والفيزياء والكيمياء، وعلوم الفضاء والبحار، كما هو الشأن في أدب الخيال العلمي، على نحو بات الإلمام بهذه العلوم والمعارف من الشروط اللازمة لتذوق الأدب والاستمتاع به والإفادة منه وفضلاً عن ذلك فقد ظهرت مؤخراً أشكال تعبير فنية جديدة، لفظية وبصرية تنتجها فئات مهمشة، أو مستبعدة أو خاضعة لألوان من التمييز الذي تسمح به بعض البنى الاجتماعية السائدة، وقد غدت هذه الأشكال ذات انتشار واسع وتأثير كبير في مختلف الفئات الاجتماعية ولا سيما الأجيال الجديدة.
إن تدبر الأدب الذي خضع لهذه التحولات، وتدبر أشكال التعبير الفنية الأخرى لم يعودا ممكنين بالنقد الأدبي الذي بات غير قادر على الإحاطة بالنص الأدبي الجديد، أو التعامل على نحو مرضٍ مع ما تنطوي عليه وجوهه المختلفة من غنى في التقنيات والدلالات.
ولذا فإن على المجتمعات العربية الحديثة أن تتبنى نقداً آخر هو (النقد الثقافي) الذي يستطيع أن يستجيب للظروف والشروط والمحددات الجديدة التي باتت تحكم هذا الإنتاج الجديد، فالنقد الأدبي غدا مجرد نشاط فكري غير مجدٍ ولا فعال في معالجة الإنتاج الأدبي العربي الحديث.
وعلى النقد الأدبي أن يتجاوز النص الأدبي، وأن يمضي إلى ما وراء هذا النص من عقلية أنتجته ليقع على آليات التفكير التي تحكمها، وهذا ما لا يستطيعه النقد الأدبي.
النقد الثقافي هو الذي يملك مفاتيح الإنتاج الأدبي العربي الحديث وأشكال التعبير الفنية الأخرى، وبالقدر نفسه يملك مفاتيح الكشف عن البنى الذهنية التي تحكم إنتاجه، وتحدد دلالاته.
هذه هي ضرورة النقد الثقافي وهي وظيفته وإضافته.
فريال عليان الحوار - الرياض
(1) راجع: د. عبد الله الغذامي، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000م).