إذا كان الاستعمار القديم في الماضي قد ارتبط ببزوغ عصر الرأسمالية، وتنامي حاجة البرجوازية الأوروبية إلى أسواق دائمة لتصريف منتجاتها؛ فإن الاستعمار الجديد سوف يرتبط كلياً منذ الآن، بتنامي حاجة الشركات العملاقة العابرة للقارات إلى تأمين تدفق مستمر للمواد الخام الضرورية لبقاء الصناعة، وذلك من خلال تنظيم أكبر عملية نهب جماعي في التاريخ لثروات شعوب بأكملها، وبشكل أخص شعوب العالم الثالث، تارة عبر الاستيلاء المباشر (العسكري) وتارة أخرى عبر الهيمنة الثقافية المطلقة. إن هذا لا يعني أي شيء آخر سوى أن الإمبريالية قد انتقلت من الحاجة إلى السوق، إلى الحاجة للاستيلاء على بلدان السوق. ذلك ما يفسر لنا سرّ التحالفات الوثيقة والمصيرية، بين الشركات الاحتكارية الكبرى ومصانع السلاح من جهة، وبين شركات النفط الكبرى والقوى اليمينية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى.
هذا هو القانون الحقيقي الذي بات يتحكم اليوم بنظام علاقات القوة في العالم، وهو القانون نفسه الذي سوف يفسر لنا طبيعة الاختراق الثقافي عالمي الطابع، ويحدد أبعاده وأهدافه ونتائجه المحتملة وتأثيراته بعيدة المدى.
إن الفارق الأكثر جوهرية، بين التجارب السابقة للكولنيالية الكلاسيكية وبين التجارب الراهنة، هو الذي تعبّر عنه الرجّات الأولى للزلزال الجديد. ومن غير شك، فإن عصراً استعمارياً جديداً يوشك الآن على الولادة في حاضنة جديدة، ولكن ليترعرع في كنف قيمٍ وأفكار ورؤى قديمة، مستمدَّة بالكامل تقريباً من تراث استعماري ضخم تركته الكولنيالية خلفها في الشرق بعد رحيلها.
ولأنه يعبر القارات ويجتاز الحدود بخطاه الثقيلة ليجوب طرقات العالم من أقصاه إلى أقصاه، فإن الاستعمار الجديد سوف يستخدم (الاختراق الثقافي) كأداة في النهب ومن أجل تنظيمه.
لقد أصبح هذا المفهوم عالمياً بفضل قوة نفوذه في بلدان وثقافات متعددة، تتجاوز حدود العالم الثالث لتصل إلى أوروبا نفسها. إنه يتبدى كخطر عالمي الطابع لا ينبغي أن نشعر حياله، كما لو أنه يهددنا وحدنا؛ ففي الغرب الأوروبي كما في الشرق العربي المسلم، يمكن للمرء أن يصيخ السمع لوقع الخطى الثقيلة للعصر الجديد وهي تجتاز ضفتي الأطلسي.
إن (مفهوم الغرب) مثلاً، وكما ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، بوصفه مفهوماً دالاً على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء، أضحى عرضة للتدمير.
ولعل النقاش الدائر بين النخب اليمينية في الولايات المتحدة وأوروبا حول (مفهوم الغرب)، هو الذي يبيّن على أكمل وجه، كيف أن هذا المفهوم أصبح من بين أكثر المفاهيم تعرضاً للنقد بالنسبة المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية. إن محو مفهوم (الغرب القديم) وإعادة صياغته وتوحيده، بحيث لا يعود دالاً إلا على غرب واحد متأمرك واحد، هو جوهر مشروع الهيمنة على العالم.
إن فهماً متطلباً لما يدعى اليوم في الأدبيات السياسية العربية ب(الاختراق الثقافي) سيكون ممكناً، حين يجري فهم الظاهرة بالتلازم مع عودة الاستعمار القديم، ودخول العالم حقبة (اختراق السيادات ).
وهذا المفهوم الأخير الذي يعبر عنه ويا للمفارقة، الإجماع الدولي المتزايد في مجلس الأمن والأمم المتحدة على التدخل السافر في شؤون البلدان الأعضاء، والتلويح بالحل العسكري غالباً بزعم وجود (انتهاكات) هنا وهناك، كما هو الحال مع الطريقة التي يعالج بها المجلس مسألة دارفور (غرب السودان ومساحتها تعادل مساحة فرنسا وهي إقليم غني بالثروات الهائلة) سوف يرتبط بدوره، بحقيقة أن العالم دخل بالفعل عصر (ما بعد الصناعة)، أي عصر السلعة الناعمة، حيث تتعاظم الحاجة إلى الموارد والمواد الخام التي لا يملكها العالم الرأسمالي القديم، فيما هي متوافرة في أراضي الشعوب المصنفة بأنها عالم ثالثية.
وكما كان الحال مع الموجة الأولى من الرأسمالية في القرن ما قبل الماضي؛ فإن الموجة الثانية ما بعد الصناعية في العالم، تتلازم مع ظهور تصنيفات للشعوب شبيهة بالتصنيفات القديمة، فثمة إلى جانب البلدان المتقدمة، بلدان أخرى توصف بأنها لا تزال في مرحلة (تنمية تخلف) يُزعم، على نطاق واسع في الفكر الاقتصادي، أنه من طبيعة بنيوية عصيّة على أي تغيير، وأن شعوب هذه البلدان بطبيعتها وبسبب (ثقافتها) غير قادرة على استخدام هذه الموارد، أو هي - في أحسن الأحوال - عاجزة عن الحفاظ عليها من النضوب والضياع، وقد تقوم بتبديدها فيما تتعاظم حاجة العالم المتحضر إليها. لقد راجت في السنوات الأخيرة (نظريات) اقتصادية وسياسية وثقافية مفادها أن تنظيم نهب جماعي وحرّ للكوكب، من جانب إمبرياليات جماعية متحالفة ومتعاقدة على أسلوب النهب، وفي إطار (غرب واحد) استعماري، بات هو السبيل الوحيد أمام تلبية الحاجات المباشرة للمواد الخام، وأن هذه تشكل أمراً ضرورياً لبقاء العالم الرأسمالي واستمرار ازدهاره وشرطاً من شروط الحياة أو الموت.
في كتابه (الثقافة والإمبريالية) أوضح إدوارد سعيد - بجلاء - كيف أن الإمبريالية يمكن أن تتجلى بوصفها سيطرة ثقافة قوية على أخرى ضعيفة، وأن التاريخ البشري يمكن له أن يتجلى أيضاً، كتاريخ صراع بين السرديّات. بكلام آخر يمكن للمرء وهو يتأمل في التاريخ أن يلاحظ كيف أن الصراع كان يدور وباستمرار بين الأفكار والثقافات لا بين الطبقات أو القوى والمصالح وحسب.
وللبرهنة على أن هذا المنظور يصلح لتحليل التاريخ الاستعماري بوصفه تجسيداً لصراع الأفكار، فقد انصبّت جهود سعيد على تقديم تشريح أدبي مدهش للرواية في عصر الكولنيالية الكلاسيكية (روايات كونراد، مثلاً). بينما ارتأى سمير أمين في (إمبراطورية الفوضى - 1990م) أن عصراً استعمارياً جديداً يوشك على أن يبزغ، أساسه تحالف (الإمبرياليات) الأوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية على أساس (الشراكة في النهب)، وإعادة صياغة مفهوم الهيمنة الأمريكية على العالم، على نحو يغدو فيه دالاً على (قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم وليس الهيمنة عليه)، وأن ما سوف نراه مستقبلاً من ظاهرات وأزمات وحروب، ليس سوى تجسيد لهذا التحوّل العالمي، من النهب المنفرد إلى النهب الجماعي، وهو - في النهاية - ليس سوى تعبير عن تحوّل غير مسبوق في علاقات القوة، من الإمبريالية المنفردة إلى الإمبرياليات الجماعية.
ومع ذلك تبدو الحاجة ملحة أكثر - وخارج نصيّ إدوارد سعيد وسمير أمين - إلى تحليل التاريخ الراهن من منظور الترابط بين استراتيجيات اختراق السيادة وتدمير الخصوصيات الثقافية المحلية، وبين دخول النهب الإمبريالي طوراً جديداً لا سابق له.
فإذا كانت الإمبريالية كما ارتأت الماركسية - اللينينية في مطالع القرن الماضي هي أعلى طور في الرأسمالية؛ فإن الاستعمار الجديد سيكون هو الطور الأعلى في الإمبريالية، حيث تنتقل الدولة - الدولة نفسها الباحثة عن أسواق لتصريف بضائعها في الماضي باسم المدنية وقيم التقدم ونشر الحضارة في الشرق - إلى طور جديد تتحول فيه كلياً إلى (دولة متوحشة) ليست الثقافة فيها سوى أداة للهيمنة المطلقة عديمة الرحمة.
التحليل التالي سوف ينصبّ على توصيف هذا الطور الجديد من أطوار الإمبريالية، بالتلازم مع تفكيك مفهوم (الاختراق الثقافي) وتبيان طبيعته وحدوده وحتى أشكال فهمه في العالم العربي.
سنقوم لهذا الغرض، بتحليل بعض مظاهر الاختراق وما يصاحبها من تنامي ظاهرات اجتماعية وثقافية في الحياة العامة لمجتمعاتنا.
أولاً: إن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية حيال شعوب العالم الثالث عموماً، والعالم العربي - الإسلامي بشكل أخصّ منذ صعود الريغانية (نسبة إلى ريغان الرئيس الأمريكي الأسبق) وانتشار أفكارها الشعْبوية في الثمانينات من القرن الماضي، وصولاً إلى إدارة بوش الابن الحالية وصعود اليمين المحافظ؛ يتسم عموماً بقدر مروّع من الوحشية والفظاظة حيال الثقافات الأخرى، وبالاحتقار العلني للقانون الدولي، الممزوج غالباً برغبة معلنة في الهيمنة على العالم.
لقد انتقلت الإمبريالية، مع بزوغ عصر ما بعد الصناعة وتعاظم الحاجة إلى (نهب) موارد العالم الثالث، من طور الاستعمار الكلاسيكي الباحث عن أسواق لتصريف منتجات الرأسمالية، إلى طور الاستعمار الجديد الطامع بوضع اليد على كل الثروات (الموارد والمواد الخام). لم يعد هدف الإمبريالية الاستيلاء على السوق، بل أصبح الهدف المباشر لها هو بلد السوق. ولذلك لن تكتفي إمبريالية (الدولة المتوحشة) هذه، بحدود انتصار ثقافة أقوى على ثقافة أضعف، ولا بفرض أشكال غير مترابطة من الهيمنة الثقافية على السكان المحليين، كما كان الحال مع الاستعمار القديم، ولا حتى بإرغامهم على اعتناق وتقبّل قيم ثقافية جديدة بديلة عن قيمهم التقليدية، بدعاوى حاجة مجتمعات الشرق إلى التكيف مع متغيّرات العصر؛ بل ستواصل تطوير أشكال السيطرة الثقافية من أجل تبرير النهب وشرعنتْه، وصولاً إلى تدمير الخصوصيات الوطنية تدميراً شاملاً. ولذلك ستبدو مظاهر السيطرة الثقافية في عالم اليوم، نوعاً من فرض خصوصيات مستلّة من أنساق اجتماعية وثقافية متناقضة، على مجتمعات لا يكف أفرادها عن الشعور بالحيرة والارتباك حيال الطرق الواجب اتباعها في المواجهة.
يكشف هذا البُعد المأساوي عن حقيقة أن الدولة الإمبريالية قد انتقلت إلى طور الدولة العالمية المتوحشة، وأنها لن تتوقف بعد الآن عند حدود الاحتلال العسكري.
وكما بيّن تاريخ الولايات الأمريكية منذ اكتشاف القارة؛ فإن النموذج الاستيطاني الأمريكي الذي قام على ثقافة الحق الديني (التوراتي) في (محو الآخر من الوجود)، بإزالة وإفناء ما يزيد على 80 مليون هندي من السكان الأصليين (والنموذج الصهيوني في فلسطين مجرد محاكاة له) إنما هو النموذج الوحيد في التاريخ الإنساني الذي تخطت فيه الدولة حدود القسوة والإخضاع التي عرفتها سائر المجتمعات البدائية.
وهو النموذج الوحيد الذي تجاوزت فيه الدولة حدود التوحش، مع تحوّل السيطرة الثقافية إلى أداة عنيفة من أجل النهب.
إن هذا التاريخ ليبيّن كذلك وبوضوح، كيف أن إمبريالية الدولة المتوحشة ستواصل ومن دون تردد، وبواسطة أشكال متنوعة من الاستخدام المنظم والمفرط للقوة، إستراتيجية تدمير ومحو ثقافات وشعوب بأكملها، وتحطيم كل أساس روحي أو ثقافي محتمل لمقاومة النهب.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244