في منطقنا الجدلي المتعطش للنصر.. لا يخضع إيراد الأدلة لحاجة القضية المستدَل لها بنفس القدر الذي يخضع فيه لرغبة صاحب القضية في إلقاء تبعة أخطاء الاكتشاف المتعجل على ما ظنه لأول مرة دليلا، وانتزاع اليد من ورطة المواجهة، ونيل درجة الحياد استعداداً لامتحان القضية بين يدي التاريخ والناس.
أقول هذا في كل مرّة أجد فيها صاحب طرح فكري ما يستعين بدليل غير ناضج لإثبات صحة طرحه.. وعندها تجد أن الدليل هنا ليس دائماً دليل إثبات مصداقية البحث.. بل هو في واقعه دليل يحاول الباحث من خلال الاختباء خلفه أن يثبت لنا براءته من دم القضية المقضي عليها للتو.
هذا الميل المتعجل إلى التدليل والبرهنة الذي فرضه عليها تعجلنا في محاولات لخروج بكشف ذاتي.. أو الوقوع على كنز علمي.. يوقع في أخطاء منهجية وعلمية ما كان لها أن تقع لو أن النظرية موضع البحث أخذت حقها في الحكم بنفسها على ما جاءت به.. ولو أن القضية موضع البحث أخذت فرصتها في العيش بين يدي (الجماهير) بعيداً عن محاولة استغلالها في إثبات هذا أو نفي ذاك. والدكتور عبدالله الغذامي منذ محاولاته الأولى لإقناعنا بجناية الشعرية العربية التي لا يرى فيها سوى مظهراً من مظاهر تسلط المثقف الناطق على الجماهير الصامتة مما ترك - في نظر الدكتور - آثاراً ثقافية وتربوية وسياسية لا تمحى.. كان من أوضحها - عنده - فكرة الاستلاب الظالم.. وشعرنة أمة كاملة لم يكن فيها إلا شاعر عالي الصوت أو متلق مقود بصمته.. حتى وإن كان الخليفة!
منذ أن حاول الدكتور إقناعنا بذلك وهو يبحث عن دليل يؤيد فكرته.. ويصرخ بأعلى صوته بديلاً عنه.. ويقف في وجوه الرافضين ويناقشهم ويريح الباحث منهم!
وهذا البحث عن الدليل المجن (دون من كنت أتقي) على رأي ابن أبي ربيعة هو تماماً السبب المباشر لما قام به الدكتور عبدالله الغذامي من محاولة الاستفادة من جماهيرية البرنامج التلفزيوني (سوبر ستار) الذي بثته إحدى القنوات العربية في إثبات فكرته عن (تلجيم الشعراء للعامة) وقمع (الفحولة الشعرية) لتلك لأصوات الملايين من الناس الذين عاشت رؤاهم وتصوراتهم ردحاً من الزمن تحت وطأة الاستماع لا غير!
يقول الدكتور في (الثقافة التلفزيونية): (وأول ما يشار إليه هنا أننا أمام غالبية شعبية كانت في السابق لا تملك وسيلة للتعبير عن ذاتها ولا عن أذواقها وخياراتها، وهي الآن وضعت يدها على وسيلة تعبر بها عن نفسها، فالبث التلفزيوني الفضائي قد فتح مجال الاستقبال الحر وفي المقابل فإن الهاتف الجوال قد فتح المجال للإرسال الحر، وهذه عملية إرسال واستقبال حرة وغير مراقبة وهي تحدث لأول مرة في التاريخ البشري.. ومن هنا ظهرت أصوات الناس التي كانت مغيبة من قبل، وظهر في الأفق رأي عام غير محكوم بقيادة معينة وبرز الرأي التلقائي المطلق.. وبرنامج مثل سوبر ستار تشاهده أعداد من البشر تتجاوز العشرين مليونا في حين لا يطبع من أي كتاب عربي مهما بلغت أهميته أكثر من ثلاثة آلاف). ولو وقفنا قليلا بين يدي ما قدم الدكتور لوجدنا أننا أمام تأييد لفكرة مختزنة بدليل لا يمت إليها بصلة.. لأننا ببساطة نستطيع أن نلاحظ أن هذه الجماهير التي رآها الدكتور حرة.. هي في واقع الأمر مقودة مستسلمة تردد رأياً لا تراه هي.. تماما مثلما كانت تخرج في مظاهرات حاشدة لتردد رأياً ينسب إليها وهي في حقيقة الأمر منه براء.. ثم ما تلبث تلك المظاهرات الحاشدة في تأييد شخص أو حزب أو اتجاه حتى تنقلب رأساً على عقب بعد الممارسة الفعلية للشخص أو الحزب الذي استفاد من تلك الحشود حتى آخر قطرة عرق تحت لهيب الشمس..!
والاختيار - في البرنامج التلفزيوني - سهل ميسور.. لا يستلزم أدنى قدر من العقلانية.. ولا يستوجب أدنى قدر من المعرفة.. يقوم على العاطفة أو الشهوة، ولا يترتب عليه نتائج تحتل حيزاً من مستقبل المصوتين. وليس فيه عبء اختبار صحة القرار في ممارسات مستقبلية تمس مصالحهم السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية.. فهم لا يخشون الوقوع في خطأ الاختيار.. ولا تعنيهم نتائج ذلك التصويت. لم يكن في الأمر ما تصوره الدكتور حين يقول: (من هنا نقول إن أول علامات التغيير الحديث هو سقوط فكرة أن المثقف ضمير الأمة) وهذه هي الفكرة التي يبني عليها الناقد أصل حكمه.. فهو معنيٌّ تماما بقضية تمييع الخاص في العام.. ودفن البارز في الكثير.. وحجب العين نصرة ولم يجب الدكتور عن السؤال البدهي الذي أوجده كلامه وهو: كيف وجد المثقفون على اختلافهم وسائل التعبير منذ زمن ولم تفطن لتلك الوسائل العامة؟
وإن فطنت لها فكيف لم تستطع استخدامها، بينما يمارس المثقفون قيادتهم انطلاقاً من ميادينها، وهي شاخصة أمامها دهراً طويلاً؟
إن ما حدث في سوبر ستار ليؤكد حاجة العامة لمزيد من الوعي.. ويبرهن على فاعلية فكرة القيادة.. قيادة حقيقية نابعة من الاندماج الواقعي بين الأطياف! فالقيادة الفكرية أجدى من قيادة المال والجنس!
إن الذي حدث في البرنامج لم يزد على أن كان قيادة فردية لجموع الجماهير قام بها هذه المرة التجار! ومن الواضح أن قيادة التجار للجماهير لعبت على وتر الغرائز.. واستفادت إلى غير حد من ميل النفس البشرية إلى اللهو والمتعة.. في غير كد للذهن.. ولا تفكير في العواقب.
وإن استمرار هذا الفتح الكبير في قدرات العامة (كما يصوره الدكتور) كفيل بتحييد الجوانب العظيمة والتركيز على توافه الأمور..!
على أننا حين نعود لاختبار نظرية الناقد في أن ما حدث كان إبرازا لرأي جمهور طالما تم تغييبه.. بل إنه يعبر عنه بقوله: (نحن أمام ظهور أصوات لم تكن تظهر ولقد تكلمت هذه الأصوات بعد أن كانت خرساء ولقد قالت ما كانت تعتقده وتتصوره منذ الأصل). نجد أننا نستطيع أن نتبين بوضوح أن مسألة حق الاختيار وحق الإعلان عن الرؤى لم تكن حاضرة في هذا البرنامج على اعتبار أن الجماهير فوجئت بكل شيء.. فلم يكن لها يد في تحديد عدد المتسابقين، ولا عناصر الموضوع، ولا زمانه، ولا مكانه، ولا طريقة تسابقه ولا موضوعات السباق، ولا مدته، ولا جوائزه ولا مستقبل الفائزين فيه. والناقد يثبت عكس ما يريد أن يقول حين يؤكد (أن البرنامج قام على أداء أغان عربية من أغنيات أم كلثوم ووديع الصافي وفيروز) وهي أغان باعترافه (كلاسيكية) و(لم يظهر في البرنامج أية أغنية مختلفة عن الذوق الموسيقي التقليدي).
لقد غفل الناقد عن حقيقة أنه يناقض بهذا ما أراد أن يثبته.. فمن المعلوم أن جلَّ المتصلين كان من الشباب الذين لم يعرفوا هذه الموسيقى التقليدية.. بل إن المتباكين على الطرب ما زالوا منذ زمن طويل يلومون الشباب على تعلقهم بالأغاني الشبابية التي ملأت الأسواق.. فكيف حكمت الجماهيرُ على ما لم تعرف؟!
والغريب أنه لا ينسى أن يميل على الشعر العربي ليؤكد أن الشعر لا يحمل قيماً تستحق التمسك بها فهو يقول: (والمغفول عنه هنا هو عما إذا كان الشعر يحمل فعلا قيما تستحق التمسك بها أولم نكشف من قبل أن الشعرنة كانت علة نسقية في الثقافة العربية...) وكأنه إذا كشف ذلك فهو كشف غير قابل للنقض.. وصواب غير قابل للخطأ.. وكأننا -نحن هنا - نكشف أن الدكتور (فحولي الحكم) على طريقته!
وهكذا تستمر محاولات (البرهنة) لنجد أن الدكتور يحاول استغلال ما يسميه ثقافة الصورة لإثبات نظريات لا تثبت!
من ذلك أنه يؤكد أن الأفلام العالمية استغلت ميل البشر إلى العنف لإنتاج أفلام مرعبة.. لكنه يستدل لإثبات نظريته في هذا الميل إلى العنف بأمثله عقيمة الدلالة عليه.. ها هو يقول: (وهو حس قديم منذ زمن الملاحم حيث جاءت كل الملاحم المهمة في تواريخ البشر كملاحم صراعات عنيفة من الإلياذة إلى الشهنامة وإلى بطولات العرب في أيام العرب وفي سيرة عنترة وأبي زيد، هذا حس بشري عميق في الميل إلى العنف وتمثله فنياً والاستمتاع به). والسؤال الذي أطرحه هنا هو: لم لم يعجب العرب بالحجاج وهولاكو وجنكيز خان وعبدالله بن علي مبيد بني أمية وأشباههم.. فيما أعجبوا كل الإعجاب بعبدالرحمن الداخل مثلاً؟
إن الأمر لا يتعلق بالعنف.. بل بانتصاف المظلوم ورد الحقوق والثبات أمام الظالم (القوي دائماً) بقوة عادلة منصفة رحيمة. ولو قام قتال بين قوتين لكان موقف المشاهد لهما متلوناً بلون النتيجة لا بلون الحدث ذاته. فلو كان يعلم أن أحدهما يدافع عن حق أو ينصر مظلوما أو ينقذ فتاة فسيكون هذا القتال بالنسبة له قتالاً يتملك جميع حواسه، ويسيطر على مشاعره، ويحظى بشديد متابعته، ولربما نسي طعامه وشرابه من شديد اشتعال عواطفه. ولكن الصراع ذاته لو كانت نتيجته ستحدد فقط من سيقوم بالظلم منهما أو بالسرقة أو الاختطاف مثلاً.. فستكون الدماء التي تسيل منهما غير مثيرة لأي نوع من المتابعة أو الانبهار أو اللذة أو النشوة.
ليست العبرة بالعنف.
العبرة بمسبباته ونتائجه.