ويعتقد نفر من الناس، أيّها السادة، أنّ المصول واللقاحات هي اكتشافات جديدة، لم يعرفها أو يقول بنظريّتها أحد قبل باستور في مجالاتها. ولكنّ هناك بيتاً من الشعر العربيّ سائراً يفنّد هذا الاعتقاد، ألا وهو بيت أبي نواس المشهور:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
فنظريّة استحضار اللقاحات والمصول الواقية والشافية من مستنبتات الجراثيم الممرضة قد عرفها هذا الشاعر العباسيّ العهد قبل أكثر من عشرة قرون. ولكنّ المؤسف أنّ عبقريّة أبي نواس الشعريّة قد طغت على سمعته العلميّة وعلى اكتشافاته في علم المداواة. وإذا تيسّر لي فائض من الوقت فلسوف أنشر على الملأ ما توصّلت إلى معرفته عن كيفيّة اقتباس باستور لنظريّات شاعرنا وعالمنا العبقري ذاك أيّام تردّده على مدرسة اللغات الشرقيّة في باريس، ودراسته لكتاب ابن منظور في أخبار أبي نواس. إنّه الكتاب الذي حظرت الحكومات العربيّة طبعه وتداوله بين الناس بتأثير مؤسسة باستور الواسعة النفوذ. ولسوف أفضح كذلك سرّ الصداقة التي انعقدت بين بهرنغ مكتشف المصل المضاد للخنّاق وبين المستشرق الألماني نولدكه، تلك الصداقة التي كانت نتيجتها سرقة بهرنغ بنات أفكار أبي نواس نفسه فيما يتعلّق بتحضير المصول الشافية من الدفتريا وبصنع اللقاحات الواقية منها ومن أمراض خطيرة أخرى.
والبحتريّ، ذلك البحّاثة العظيم في العلل القلبيّة، لا نرى أحداً يذكره اليوم، كأنّه لم يُنشئ الأبحاث الضافية في التغيّرات التي كثيراً ما طرأت على قلب مريضته المشهورة (علوة) الحلبيّة.
ويجدر بنا أن نذكّر أطبّاء الجيل الحاضر بأنّ سلفهم العبقريّ هذا هو أوّل من أبان العلاقة التي تربط العين بالقلب، وهي التي ندعوها اليوم بلساننا العصريّ المنعكس العيني القلبي، وذلك في قوله:
تزوّدت منها نظرة لم تجد بها
وقد يؤخذ العلق الممنّع بالغضب
وما كان حظّ العين في ذاك مذهبي
ولكن رأيت العين باباً إلى القلب
جدير بنا أن نطلق على هذا المنعكس اسم منعكس البحتريّ. إذ ليس هذا الطبيب الشاعر أقلّ جدارة في هذا المجال من وستفال ورومبرغ وبابنسكي وسواهم ممّن نغدق أسماءهم على المنعكسات والعلامات والتناذرات في دراستنا للأمراض العصبيّة.
إنّ الشرح ليطول لو ذهبنا نعدّد مآثر الشعراء العرب في فنون الطبّ. فهل هناك عالم أو بحّاثة وصف الحمّى بأبدع ممّا وصفها المتنبّي؟ أو من درس تشوّهات العمود الفقريّ كدراسة ابن الرومي لها؟ ومع ذلك فإنّك لا تجد في كتبنا أو بين باحثينا من يذكر أسماء هؤلاء الفطاحل، بل تجدنا نستشهد بأقوال أناس غرباء لم يفعلوا شيئاً غير أنّهم نقلوا معلومات من اللغة العربيّة إلى لغاتهم الخاصّة، وادّعوا نسبتها إليهم. وهذا مع الأسف هو شأن الحقيقة في كلّ زمان ومكان، نراها عندنا مهملة ومستنكرة، فيما يفوز الأدعياء بالشهرة والمكاسب.
على أننّا في العصر الحاضر، على كثرة ما اقتبسه علماء هذا العصر من أولئك البحور الزاخرة، وعلى كثرة ما في أيدينا من الوسائط والآلات، ما نزال على جهل مطبق بالنسبة لازدهار العلم في أيّام العرب الأقدمين. ما تزال أمامنا مراحل لكي نوازيهم، فكيف بأن نسبقهم؟ نحن على جهل كبير بكثير من المعلومات المفيدة التي كانوا واقفين عليها، ومطبّقين لها في مختلف مجالات الحياة. انظر مثلاً إلى ما يقوله العبّاس بن الخنف في صدد عمليّات تحلية المياه، أعني تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب بأسهل طريقة، وقل لي ما هو مبلغ علمنا الحاليّ عن الوسائل المستعملة في ذلك التحويل. قال العبّاس بن الأحنف:
جرى السيل فاستبكاني السيل
إذ جرى وفاض له من مقلتي غروب
وما ذاك إلاّ حين خُبّرتُ أنّه
يكون أجاجاً ماؤه فإذا انتهى
إليكم، تلقّى طيبكم، فيطيب
فيا ساكني شرقيّ دجلة كلّكم
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
وإنّ الروح العلميّة لتتجلّى واضحة في البيت الأوّل من هذه المقطوعة. فالعبّاس بن الأحنف، ويبدو أنّه كان مهندساً كيماويّاً، يبكي شوقاً لمعرفة طريقة تحلية المياه التي يتّبعها مخاطبه. فايّ منّا اليوم يبلغ حبّه للمعرفة هذا المبلغ؟ الجواب: لا أحد!
ثمّ انظر إلى ما يقوله المتنبّي، واصفاً نوعاً من الآلات القاطعة، التي كانت على ما يبدو، مبذولة في أيّامه، ولكنّنا مع الأسف لا نعرف عنها شيئاً، مع حاجتنا الماسّة إلى أمثالها في عمليّاتنا الجراحيّة. يقول المتنبّي:
كم قتيل كما قتلت شهيد
ببياض الطلى وورد الخدود
وعيون المها ولا كعيون
فتكت بالمتيّم المعمود
راميات سهاماً ريشها الهدب
تشقّ القلوب قبل الجلود
فأين نجد اليوم هذه السهام التي تشقّ القلوب قبل الجلود؟ إنّ أست اذنا البروفيسور لوسركل ليبحث عنها بالسراج والفتيلة، فلا يعثر لها على أثر. ففي هذا العصر الذي وصل فيه فنّ الطهارة والتطهير، الآسبسيا والأنتيسيبسيا، إلى ذروته، ما نزال نتطلّع إلى أدوات تجنّبنا دخول الجراثيم الموجودة على سطح الجلد إلى داخل الجريحة، وهذا لا يتأمّن إلاّ إذا استطعنا الوصول إلى الأحشاء دون شقّ الجلد الساتر لها. وقد كان هذا الأمر باستطاعة أجدادنا، أمّا نحن ففي عجز تامّ عن القيام بذلك، أليس هذا من التقصير، بل من الخزي بمكان مريع؟
ولنستمع بعد ذلك إلى ما كانت ترتجز به أمّ حكيم الخارجيّة. كانت رحمها الله تحمل على أعدائها وهي تقول:
أحمل رأساً قد مللت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عنّي ثقله
أحسبكم توافقونني على أنّ في هذا الكلام دليلاً قاطعاً على أنّ العرب الأقدمين يملكون وسائل تتيح لهم رفع الرأس من مكانه إذا تعب صاحبه من حمله، ثمّ إعادته إلى ذلك المكان بعد أن يستريح. نحن اليوم لا نملك أيّة معرفة بتلك الوسائل. فكتبنا التي ننقلها عن الأجانب وعلومهم السطحيّة تؤكّد لنا أنّ الروح تفارق الجسد بمجرّد فصل الرأس عنه. فكيف يصحّ ذلك بصورة مطلقة، وأمّ حكيم تريد رفع رأسها عن جسدها لمجرّد أنّها تعبت قليلاً من حمله، لتعيده إلى مكانه بعد ذلك؟ هذا في الواقع يؤكّد على منزلة تلك المرأة في الطبّ والمداواة ممّا جعل مشاهير الأطبّاء والنوابغ والعلماء يشيدون بقدرتها في هذا المجال، ويردّدون اسمها بكلّ إجلال. مثال ذلك ما قاله قطريّ بن الفجاءة منوّهاً بتفوّقها على فحول النطاسيين:
لعمرك إنّي في الحياة لزاهد
وفي العيش، ما لم ألق أمّ حكيم
من الخفرات البيض لم ير مثلها
شفاء لذي بثّ، ولا لسقيم
أيّها السادة، هذا قليل من كثير ممّا سجّله الشعر العربيّ عن مآثر العرب في العلم والطبّ والأدب، التي اشترك في صنعها نساؤهم ورجالهم، جاهليّوهم والمسلمون منهم. ولولا ضيق الوقت لأطنبت في الحديث إليكم عن تلك المآثر وفصّلت. ولكنّي أردت هذه الكلمة المقتضبة عبرة لمعتبر، وذكرى لمذكّر، والله وراء القصد، والسلام عليكم.
(نصّ محاضرة ساخرة كتبها الطالب عبدالسلام العجيلي، عام 1943، أثناء دراسته الطبّ في جامعة دمشق)
انتقل إلى رحمة الله 2006م - سبق نشر الجزء الأول