يدهشني تهافت الناس على السلطة! ولعلّ تصوّر المرء للحظة تنحّيه، أو زوال سلطانه لكفيل بزهده في السلطة والسلطان معاً.
ومع ذلك يحاول المتهافتون على السلطة، ذبّ صورة لحظة الفقد هذه عن مخيّلاتهم، بإرضاء النفس بامتيازات ما بعد السلطة، فصاحب السلطة، وإن تركها أو تركته بأيّ شكل من الأشكال، فإنّه يحتفظ بمجموعة من الامتيازات، إن لم يضمنها الواقع، فسيضمنها التاريخ. ولعلّ معظم الدول تحتفظ لأصحاب سلطة سابقين بمزايا عديدة، تتفاوت بحسب أدبيّات نظمها، فيبقى للرئيس السابق امتيازاته، من لقب، ووضع اجتماعيّ، وسياسيّ، ومن دخل ماديّ، كما يحتفظ بذلك رئيس الوزراء السابق، والوزير السابق، والسفير السابق أيضاً، بوصفهم كانوا جزءاً من منظومة الدولة في إحدى مراحلها. أمّا حين تتغيّر المنظومة، فإنّ التاريخ يحتفظ للسلطان السابق بامتيازاته، سواء أكان لذلك السلطان موقع الضحيّة أم الجلاّد، أم كان له موقع إشكاليّ بينهما.
ولعلّ سلاطين سابقين عبر الثقافات كلّها ضمن التاريخ لهم الحقّ بلقب طاغية، أو إمّعة، أو شهيد، أو ضحيّة، بدءاً بفرعون الذي طغى، وجيجز ملك ليديا، ومروراً بالخليفة عمر بن الخطّاب الذي استشهد، وليس انتهاء بصدّام ذي النهاية الإشكاليّة..
وليس تجديفاً قولنا إنّ سلطة الحبّ هي الأقوى بين شعب السلطة، وإنّ سلطان المحبوب على المحبّ يبزّ كلّ سلطان. وقد اعترف أصحاب السلطة أنفسهم بخضوع سلطتهم لسلطة المحبوب، سيّما ذلك الذي يتمتّع بقدرة على إدارة علاقة الحبّ بينهما، وقد أجمع أولئك السلاطين العشّاق على أنّ دله المحبوب الذي يعي مكانته في القلب يزيد من خضوع المحبّ، ويقلقل مداميك سلطانه، ويجعله عرضة لأساليب الترجّي والتمنّي، وعبارات التذلّل واللوعة، ولعلّ الملك الضلّيل أوّل من أفصح عن حال السلطان المتذلّل بقوله لفاطم، الذي قد يكون اسماً مستعاراً لحبيبة:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّل
وإن كنتِ قد أزمعتِ صَرمي، فأجملي
أغرّكِ منّي أنّ حبّكِ قاتلي
وأنّكِ مهما تأمري القلب، يفعلِِ!
وتتأتّى مصداقيّة مقولة تفوّق سلطان الهوى على أيّ سلطان آخر، من قوّة نفوذ القائل، ومن موقعه الإيديولوجيّ- التاريخيّ، لذا لا نملك مردّاً لتلك الحالة حينما يعبّر عنها هارون الرشيد الذي لا يختلف اثنان على سطوة نفوذه وامتداده، إذ يقول:
ملكَ الثلاث الآنسات عناني
وحللنَ من قلبي بكلّ مكانِ
ما لي تطاوعني البريّةُ كلُّها
وأطيعهنّ، وهنّ في عصياني
ما ذاك إلاّ أنّ سلطانَ الهوى
وبه عززنَ أعزّ من سلطاني
وعلى الرغم من قوّة سلطان الهوى ومنعته، فليس أشدّ منه آنيّة، وليس أوهى منه بعد زواله حتّى خيط العنكبوت، بل إنّ المحبوب الذي كان سلطاناً، يجرّد من كلّ حقوقه وامتيازاته، التي لا يضمن له الواقع أو التاريخ منها شيئاً، إذ لا تعدو المشاعر التي كانت، سوى حفنة من ذكريات تسقط بالتقادم، أو مجموعة من الكلمات على ورق يضيع، أو يحترق، أو يتلف بفعل الزمن وعوامل الطقس، وفي زمننا هذا يستحيل كلّ ذلك الوقت والعناء إلى بضعة رموز على الشبكة العنكبوتيّة تتلاشى بملامسة زرّ الإلغاء، والأنكى من ذلك أنّ السلطان السابق قد يحرم حتّى من حقّه في إلقاء التحيّة على الحبيب، أو السؤال عن أخباره، إمّا لحلول سلطان آخر محلّه، وإمّا حفاظاً على كرامته، وإمّا تحصّناً من انهيار أعصابه، وإمّا استسلاماً لحيثيّات هذه السلطة وطبيعتها الآنيّة، وذلك في أحسن الأحوال.
أمّا عن المعشوقين الذين ضمن التاريخ الذكر المستمرّ لسلطانهم في صفحاته، فهم ليسوا أشخاصاً واقعيين مثلنا، إنّهم شخصيّات في سرود ليس إلاّ، وللشخصيّة في السرد موقع إيديولوجيّ دائماً، سيّما إذا ما كانت شخصيّة متكلّمة، على حدّ قول (باختين). فإذا ما أخرجنا تلك الشخصيّات من سياقها السرديّ، فقدت أيّ موقع لها في سلطنة الحبّ، وصار مثلها مثلنا، إذ ستعود هذه الشخصيّات شخوصاً، وستصير محض معشوقات آنيّة، مجرّدة من حقوقها، وامتيازاتها، لا يتمتّع أحدها سوى بلقب بائس على غرار: محبوب سابق!