هل يمكننا قراءة (جاهلية) ليلى الجهني دون استدعاء إنتاجها الأول (الفردوس اليباب)؟ في ضوء اللغط الكبير الذي حظيت به تلك الرواية يتشكّل لدى القارئ، مثلما تشكّل حتماً لدى الكاتبة، تحدياً صعباً لبناء كيان خاص للعمل الجديد ينفصل به عن سابقه ويتخلص من مأزق المقارنة الذي سيُقيّمه فقط بمعياريْ التقدم والتراجع.
سأواجه هذا التحدي في تحليلي ل(جاهلية) وأجتهد في محو آثار (الفردوس اليباب) التي سأصرح بشجاعة أنها لم تكن تستحق تلك الإشادات التي انهالت عليها من كل جانب. أعلم أنني أبحر عكس التيار، لكنها الحقيقة. جرأة الطرح لم تكن تكفي لإنقاذ النص من الغرق في متاهات الأسلوب الرثائي الذي يندب حظ المرأة المقهورة والذي يكثف معاناتها بشكل مفتعل ومبالغ فيه وبأسلوب باهت وتكراري ممل.
نقف اليوم أمام نص مختلف استحق أن تصمت ليلى الجهني من أجله عشر سنوات وتنتظر حتى تنضج موهبتها وتتبلور. تعالج الكاتبة هنا حالات اجتماعية حساسة في رواية متميزة ومدروسة بعناية دون اللجوء إلى الفضائحية المنفّرة أو النياحة الأنثوية البائسة. من جهة التقنية السردية تقدم ليلى في روايتها بناء فنياً متماسكاً وتوزع الأحداث والشخوص والأماكن والأوقات بدقة محسوبة وحرص شديد يُظهران وعيها بحرفية فنها الروائي.
تتكشف أجزاء الرواية بتدوير الحكي بين الشخصيات الرئيسة حيث يركز صوت الراوي الذي يستخدم الضمير الغائب هو - هي سرده على تيار الشعور لهاشم الأخ، ثم البطلة لين التي يختصها بجزئين متتاليين، ثم الأب يليه مالك، وتختتم لين الرواية. تكتمل جزئيات الأحداث وهي تُروى من وجهات نظر متعددة، وهذه براعة من ليلى الجهني بأن تجعل الصياغة السردية لنصها تنسجم انسجاماً تاماً مع دعوته الضمنية إلى التعددية وقبول الآخر. هذه الانتقالات بين وعي الشخوص تتماشى أيضا مع تكنيك السرد الاستباقي والسرد الاستطرادي، أي تقدم الحدث ثم ارتداده إلى الوراء ليستدرك تفاصيلاً تعداها في البداية، فمثلاً: الحدث الوحيد والأهم في الرواية هو الاعتداء على مالك، وهذه هي نقطة البداية في الرواية، لكنها في الحقيقة نقطة ما قبل نهاية الأحداث، فكل ما بعدها توضيح تدريجي لما قاد إليها يأتي على شكل المناجاة الداخلية أو استدعاء الذكريات أو نبش الرسائل القديمة واليوميات.
وقد يرى البعض أن (جاهلية) هي قصة حب مستحيلة، وهذه رؤية لها تبريراتها لأن العقدة الأساسية في هذا النص هي علاقة الحب التي ربطت بين مالك ولين والتي لن تجد لها نهاية سعيدة، فارتباطهما يحف به الكثير من المخاطر والاعتراضات، وطريقهما إلى الزواج مليء بالعراقيل. وتشغل المشاعر العاطفية مساحة واسعة من النص وتستأثر بأجمل التعبيرات وأكثرها خيالاً. يصف مالك انشغاله بلين في كلمات شاعرية تكثف أحاسيسه الرقيقة: ضبط نفسه يتخيل صورتها في وسادته، ويردد اسمها ويشعر للحظة خاطفة أن عقله يخلو من كل شيء، وأن اسمها يتردد كوسوسة حلية صدفية معلقة في سقف غرفته، ما أن تمسها هبة هواء، حتى ترن بخفوت غامض، يبعث ذكريات غير واضحة من مرقدها (154).
كما تصف لين برقة شديدة حرصها على استبقاء هذا الحب نابضاً في قلبها قائلة: إن أكثر آلامها صارت تجيء من هذا الحب، وهي تمد قماشته العريضة أمامها كل ليلة، وتحاول رتق ثقوبها متسائلة أن كان هو هنالك في الطرف الآخر يفعل الأمر نفسه (115).
ولكن لو كان الحب هو القضية لتحولت الرواية إلى الرومانسية ولم تُظهر بطلة قوية وصاحبة فكر وكرامة لا تساويها إلا عنادها. يقول لها مالك: أنت عنيدة جدا (61)، ثم يرجوها أن تسامحه على إخفائه عنها مسألة عدم حصوله على الجنسية: لا تكوني قاسية علي. (105)، لكن روحها بدت جافة كأن لم يمسسها الحب (107) أمام خداعه لها، وأصبح بإمكانها أن تكون قاسية وحمقاء وغير قادرة على أن تغفر (53). الحب عند لين مسألة مبدأ وموقف، أن أغضبها لم تعد ما كانته أبداً (111)، وإن آلمها أثار توحشها (68). هذه فتاة لا تبكي حتى في أحلك الساعات (50)، وهي متعقّلة إلى درجة أنها سمحت لعقلها بإفساد عاطفتها واعترفت بأنها ما قبلت الزواج من مالك إلا وفاء للماضي:
(لم تفرح. بدا لها الأمر واجباً لا أكثر ولا أقل. أقنعت نفسها أنها تريد الارتباط به من أجل ما مضى وليس من أجل ما هو آت وكم بدا لها غريباً أن تختلف دوافعهما تجاه ارتباطهما هو من أجل أن يكونا معاً كما حلم دائماً، وهي من أجل أن يكون لكل ما مضى معنى لأن الآتي، كل الآتي لم يعد يعنيها.(53)
والرواية أيضا تضع حكاية هذا الحب في وضع مقارنة مع اللاحب، فهاشم المغرم بالسيارات لا يعرف للحب الإنساني معنى: (ثم ما الحب؟ لم لا يجد عندما يسأل هذا السؤال إجابة؟ ولم يضايقه أحياناً إلا يجد إجابة الحب الإخلاص وجع الرأس (27). وهو لا يكتفي بالتساؤل، بل يمارس حالات فقدانه التام للعواطف ابتداءً من علاقته بسحر التي أحبته ووثقت به فتخلى عنها دون أن يتأثر لبكائها، وانتهاءً بعلاقته بابنة الخامسة عشرة التي استغل براءتها وأحضرها إلى البيت في غياب أهله (38)، فهاشم في نهاية الأمر لا يتق الله في بنات الناس (37) لأن النساء عنده أم تلد وعشيقة تسلي، كلهن صالحات فقط للمتعة الوقتية مهما تغيرت أشكالهن وأعمارهن وأجناسهن (31)، حتى الأخت لا مكان لها: أكان يجب أن تكون له أخت؟ (81)
ومن هذا المنطلق قد يتبادر إلى الذهن أن (جاهلية) رواية نسوية تسجل احتجاجاً قوياً على هذه النظرة السلبية للمرأة في المجتمع التقليدي وتنتقد التسلط الذكوري على النساء باستضعافهن. وهذا احتمال قائم بلا شك، فالرواية تعرض قضايا نسوية مختلفة على رأسها مسألة حرية المرأة في اختيار شريك حياتها. ها هي لين تعاني من حرمانها من حقها في قبول مالك زوجاً لها، تماماً كما عانت شرف من رفض أهلها للرجل الذي اختارته لأنه لا يحمل الجنسية. وتجد هذه القضية أصداءً في قصة مزنة ابنة الخامسة عشرة التي عانت من وجع الاغتصاب المشروع بعد أن زوّجها ولي أمرها من رجل في عمر جدها (81)، وفي حكاية الشابين اللذين أخذا ابنة عمهما وزوجها بالإكراه وأمروه أن يطلقها تحت تهديد السلاح، لأنه لم يكن ينتمي لقبيلتهما. (125)
والتمييز ضد المرأة له أوجه أخرى يظهر بعض منها في تململ شرف من المهانة التي تتعرض لها في بيت أهلها من جراء تسلط أخيها اللا متناهي على أبسط أمور حياتها دون أن يردعه أحد حتى وإن ضربها: كنت شيئاَ في ذلك البيت، ولم أكن روحاً (86). المرأة شيء مسير يحركه الرجل كيف يشاء، وهذا حق استلبه الرجل بلا نقاش جرد به المرأة من إنسانيتها وربط شرعية وجودها بوجود محرم لها (112).
وتكمن أوجه أخرى للتمييز ضد المرأة في علاقة لين بوالدتها التي ما فتأت تنعى حظها لعدم انجابها ولداً: (ألن يعطيني الله ولداً؟ أريد عزوة، لا أريد أن أموت بين أيدٍ غريبة. أريد ولداً يرعاني في مرضي وعجزي).
وتتعجب لين كثيراً من عدم اكتفاء أمها بوجودها بجانبها وتستغرب هذا التوق لمولود ذكر (89). لكن المسألة بدأت تأخذ أبعاداً أكثر جدية بعد ولادة هاشم الذي التصقت به أمها كتوأمين سياميين ملتصقين ظهراً لبطن (88)، ثم راحت تفضله عليها بشكل سافر وتدلله إلى حد الإفساد الذي أزعج والده:
(أمك ما أحسنت لك بحرصها عليك) (30)، وكانت نتيجة الحرص الزائد عن حده حياة ضياع (لا يركن إليها لفترة طويلة: بلا شهادة، بلا عمل (37) ورغم نجاحات لين في دراستها وعملها، إلا أنها كانت تدرك أنها تعيش في) عالم من الورق. عالم يليق برجل لا امرأة. ستكون الحياة بانتظاره كي يصنعها،
لأن الرجل يصنع حياته، أما المرأة فتنتظرها (114). تقاليد هذا المجتمع المجحفة تدفع بالمرأة إلى الهامش الضيق ولا تترك لها منفذاً ولا مهرباً، وتصرخ لين، والسارد، وليلى بصوت واحد في سطر منفصل معبر عن حجم المأساة: (يا لعذاب المرأة!) (114).