ينتمي الدكتور الوشمي إلى الجيل الذي أخذ ينفتح على الثقافة العربية المتنوعة. كان الدكتور حسن الهويمل والدكتور صالح الوشمي والدكتور عبد الحليم العبد اللطيف والدكتور أحمد اليحيى وغيرهم من طلائع مثقفي مدينة بريدة قد أفادوا من الاتصال بالثقافة العربية في شمولها وتنوعها، وبذلك أخرجوا هذه المدينة من عزلتها، حيث كان القارىء في السابق منغلقاً في نطاق ضيق لا يبرح كتب التراث، وخاصة كتب الوعظ والترغيب والترهيب. كان هذا النمط هو الذي يقبل عليه القراء في ذلك الوقت - وهم قلة - لا أستثني من ذلك إلا الكاتب المثير عبد الله القصيمي الذي شكل بتحوله من التراث إلى الانفتاح على كل فكر جديد ظاهرة نادرة وحالة فريدة تستحق دراسات متأنية. والدكتور الوشمي ينتمي إلى الجيل الذي جاء بعد جيل القصيمي، وهو جيل أخذ يتعرف على الفكر العربي، لا ليستوعبه بكل أبعاده وإنما ليخضعه لعملية اختبار، كي يصطفي منه ما لا يتعارض مع معتقده وثوابته الدينية ومع عاداته وتقاليده.
ومن يتأمل مراجعات الدكتور الوشمي لكتب النقد يجد أنها تنزع نحو الحوار العلمي الذي يتبنى في الغالب رؤية مختلفة عن رؤية مؤلف الكتاب. والتعددية في الحوار تثير اهتمام الكثير من الباحثين والمفكرين، لاعتقادهم بأنها توفر قاسماً مشتركاً من شأنه التمهيد لمناخ صالح يبلور نوعاً من المقاربات الفكرية والثقافية بين مختلف التيارات المتباينة في رؤاها ومرجعياتها الفكرية.
إن الذي يشغل الدكتور الوشمي حينما يتحاور مع الدراسات الأدبية والنقدية التأكيد على العطاء الحضاري للأمة العربية، وإثبات أنها أسهمت بسخاء في بناء الحضارة الإنسانية.
وحين وضع الأخ عبد الله الوشمي تلميذي وصديقي بين يدي جملة من المقالات التي كتبها والده - رحمه الله - وجدتني أمام واجب أحسست أن الوفاء يدفعني إليه، وهو قراءة هذه المقالات وتقدير قيمتها الأدبية والعلمية.
فأخذت أتابع النظر فيها وكتبت دراسة متواضعة سوف تنشر في الكتاب التذكاري الذي سيصدر عن نادي القصيم الأدبي في هذه الأيام.
وقد وجدت أن هذه المقالات ترقى إلى المقالة الأدبية التي تجمع ين سمو الفكرة وأصالة الرأي وجمال العبارة ورشاقة الأسلوب. وإنها لذلك جديرة أن تكون مجموعة في كتاب يؤلف بينها.
وهذه المقالات تعكس التحولات الفكرية والنقدية للدكتور صالح الوشمي ويكفي أن أمثل لذلك بموقفه من التجديد في الشعر، حيث كان في شبابه معارضاً للشعر الحر معارضة شديدة، لكنه بعد عقدين من هذه المعارضة عاد وأقر بأحقية هذا التجديد في الوجود. ومقالات الدكتور الوشمي التي وقفت في البداية موقف المتحفظ من التجديد في الإيقاع الشعري تنتمي إلى الدراسات العربية التي تناولت الكتابات الشعرية الحديثة التي أنتجت في الفترة الممتدة من منتصف القرن العشرين إلى نهاية الثمانينيات من القرن نفسه نوع من الشجن، مرده الوعي الفاجع بأن الشعر العربي قد افتتح في تلك المرحلة عهد أفوله. أضف إلى ذلك أن الأديب المحافظ لم يتعب نفسه من أجل تأسيس مفاهيم جديدة مع الفن الأدبي تتكيف مع الحساسية الحديثة. وقد أسهم الشعر الحديث بعزل نفسه عن القارىء المحافظ، فهو لضياع الموسيقى أو تبدلها في وقع المتلقي، ناهيك عن الغموض، قد صدم المتلقي الذي تكونت لديه آلية ثابتة في التذوق تشكلت نتيجة قراءاته في النمط الشعري المألوف.
وليس خافياً أن الثقافة العربية - والشعر أبرز مكوناتها - بدأت شفوية، ومن ثم جاء تدوينها في مراحل لاحقة لزمن الإنشاد، وكان التغني بالشعر الذي يحدد طبيعة الوقفات من ناحية، ويحدد أيضاً موجات الأبيات بشكلها التراكبي التي تتعاقب فيه الواحدة تلو الأخرى من ناحية أخرى هو الذي يرسم فضاء المعنى ويحدد مضمار الدلالة - وهذا ما دفع الدارسين والمتذوقين إلى مواجهة أي محاولة تجديدية تلغي فاعلية الإلقاء. وإن الخروج عن النظام الخليلي سوف يلغي هذه الخاصية من الشعر العربي. لذلك نجد الشعراء المحافظين يدافعون عن هذا النظام، ويحرصون على أن تحتفظ القصيدة العربية بهذا النسق العروضي. وقد رأوا أن في الشعر الحر تهديداً لهذه الخاصية، الأمر الذي جعلهم يواجهون الشعر الحر بالرفض وعدم القبول.
يقول الدكتور الوشمي معبراً بلهجة حادة عن موقفه من الشعر الحر: الطريقة الجديدة التي اتخذها المجددون لمذهبهم الشاذ وصفوها بأنها طريقة سهلة سليمة قويمة صالحة للتعبير عن خلجات النفس ونظرات الضمير بأسلوب شعري جذاب والواقع يبرهن لنا ضد ذلك، إذ هي طريقة فاشلة تدل عليها ألفاظها المبتذلة وتعابيرها السقيمة التافهة. فأي إنسان يملك معيار الذوق السليم والفكر القويم لا يجرؤ أن يطلق على إنتاج شعراء هذه النزعة التجديدية شعراً بالمعنى الصحيح.
إن الطريقة المرسومة لنظم أو جمع الشعر الحر هي طريقة تمكن كل إنسان من أن يكون شاعراً سخيفاً بالطبع وناظماً بالبديهة، وهذا ولا شك مسلك العجزة والفاشلين الذين رأوا بمنظارهم الفاشل إلى الطريق طريق قمة الأدب الرفيع فوجدوه وعراً طويلاً على من أراد أن يسلك النهج السليم فيطبق النظم والقواعد التي رسمها أجدادنا لصيانة شعرهم العتيد، فلم يروا بداً من الانحراف ليعرضوا فشلهم بالدعوة لرواج هذه الطريقة الجديدة بحجة أن الوزن والقافية المتقيد فيهما الشعر العربي السليم محبسان قويان يرغمان الناظم إلى حشو الكلام وتكرار المعنى، وترادف الجمل والألفاظ، وهذا زعم مردود وحجة واهية.
فالشاعر الأصيل صاحب الموهبة القوية قلما نجد الحشو في نظمه والترادف في كلمة وهو شاعر بالطبع.
بيد أن الدكتور الوشمي لم يكن جامداً في موقفه فهو بعد مرور ربع قرن على هذا الموقع المحافظ، نجد أنه يقر بقبوله الشعر الحر الجيد بشرط أن يلتزم التفعيلة.
لقد سئل الدكتور الوشمي - رحمه الله - في أخريات حياته عن موقفه النهائي من التجديد في الأوزان الشعرية، ومن الخصومة الدائرة حول ما يسمى بالشعر الحر.. فأجاب بقوله: إذا كنت تقصد بالشعر الحر المحرر من الوزن والتفعيلة، فموقفي منه هو موقفي عام 1381هـ أثناء قيام معركة حوله على صفحات جريدة الرائد المحتجبة. كان لي من هذه المعركة نصيب، فقلت في مقطوعة جاء منها:
أنا لست للشعر الطليق مواليا
كلا ولا أرضاه نهجاً يطرق
يبدو طليقاً من قيود خليلة
لكنه في الانطلاقة مخفق
أما ما التزم التفعيلة، وأجاد قائلة، وأبدع في صوره، وجدد في أفكاره، وسما في خيله، من غير إغراق وغموض، وارتبط بتراثنا، فهذا قلما ترفضه الأذواق الذواقة، وأنا إليه أميل، وأقبله كشعر منبعث من شعور صاحبه.
وأما ما انطلق من التفعيلة، وأمعن في متاهات الغموض، وعويص الرموز، وأصبح من الطلاسم التي قد لا يحسن قائله شرحها، فهذا ما يرفضه الذوق الملتحم بتراث وطنه وأمجاد لغته، لغة القرآن الكريم.
إن الدكتور الوشمي في هذا الحديث يعلن عن تراجعه عن موقفه المتشدد، وتجاوبه مع محاولات التجديد الذي كان يتزعمها شعراء العراق كالسياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. لكنه مع ذلك يقف موقف الرافض لقصيدة النثر التي تسعى لتحطيم الشكل الشعري المتوارث، وخلخلة قيم التجنيس، وإلغاء الفوارق بين أشكال التعبير في إطار مسميات ترفع عن كاهل صاحبها أمر الالتزام بقواعد الأجناس التي أصبحت متوناً جمالية، وأشكالاً مستقرة نسبياً.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ما الذي جعل الدكتور الوشمي يتراجع بعد تلك الحدة في موقفه من التجديد. هذا التراجع يعود فيما يبدو لي إلى عدة أسباب أولها ما يتميز به الدكتور الوشمي من مرونة فكرية وثاني هذه الأسباب أن الشعر الحر أثبت أحقيته في البقاء ونال مشروعيته بوصوفه مرحلة من مراحل التجديد. وثالث هذه الأسباب أن المتشددين في معارضة التجديد كان لديهم تصور مؤداه أن هذا التجديد يمثل خروجاً تاماً عن الأوزان المعروفة. لكنهم أدركوا أن المسألة لا تعدو محاولة لتجريب مستوى من الإيقاع جديد. إن النص الشعري الجديد لا يلغي الوزن أو القافية وإنما يقدم مفهوماً جديداً لهما، فالسطر الشعري - سواء أطال أم قصر - ما زال خاضعاً للتنسيق الجزئي للأصوات والحركات المتمثل في التفعيلة، أما عدد هذه التفعيلات في كل سطر فغير محدد.
هذه وقفات سريعة مع واحد من أعلام الفكر والأدب في منطقة القصيم، كان له مشاركات دائبة ومتابعات مستمرة، أسهمت في إثراء النتاج الأدبي السعودي وفي تفعيل الحراك الثقافي في منطقة القصيم. وقد تجلى لي خلال مراجعتي لمقالاته التي كتبها في بعض الصحف أصالة الأديب الوشمي واعتزازه بتراثه العربي الثري. كما وجدته قارئاً متابعاً. وكان - من منطلق مسؤولية المثقف الملتزم بقضايا وطنه - يختلف مع من يشكك بقيمة التراث العربي، لكنه كان محاوراً لا تمنعه مخالفة قوم عن منحهم حقهم من الاحترام.
وكان الدكتور الوشمي قارئاً للشعر الحديث خاصة الشعر الذي يحافظ على تقاليد القصيدة العربية الأصيلة، والذي يلتزم بقضايا أمته ومجتمعه، وهو في قراءاته يعبر عن انطباعات تمثل احتفاء بهذه الإصدارات الجديدة بغية تعريف القراء بها وإغرائهم بقراءتها.
إن هذه وقفة سريعة لا أعدها دراسة منهجية لكتابات الدكتور الوشمي، وإنما هي محاولة لملامسة إسهام الدكتور الوشمي في متابعاته وحواراته، وهي في ذات الوقت شهادة لشخص يستحق التكريم لما فيه من سجايا ومزايا يقل وجودها في إنسان هذا اليوم.