اثنان وعشرون عاما، مرت على مهرجان التراث والثقافة بالجنادرية دخل بها مرحلة جديدة من النضج، اكتسب خلالها قلوب وأعين مختلف طبقات الجمهور المثقفة والعامة، وأصبح موعدا تلتقي فيه الازمنة الماضية والحاضرة بكل ما فيه من تمازج بصري وفكري يزيده تألقا واعتزازا حمله مسئولية كبرى كنقطة التقاء بين الاجيال وبين موروث لا يندثر او يتلاشى.
تعود الجنارية لتعيد لنا الكثير من ملامح التاريخ وتكشف بالمقارنة ان لكل زمان في هذا الوطن رجاله، من زمن البناء والتوحيد الى زمن الحضارة المعاصرة بكل ما تحمله من جديد، عادت الجنادرية وعاد بنا العقل والوجدان لذكريات عبقة تنثر شذاها في كل بقعة من أرجاء الوطن تمثله تلك النماذج التي شكلت صورة مصغرة لهذا الكيان الكبير. عادت الجنادرية في موعدها لتقول لنا ان التلاحم الوطني تعكسه مرايا اسمها الجنادرية، واقع حي وإبداع في كل الجوانب الإنسانية يبرز بكل صدق ان ابن هذا الوطن كان ولا زال متمسكا ومؤمنا بقيمه ومبادئه وتراثه.
الفن التشكيلي والجنادرية
(نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا) بهذا البيت الذي ينطبق على التشكيليين تجاه معارضهم في الجناردية ابدأ الحديث عن الفن التشكيلي في مهرجان التراث والثقافة، الحديث الذي ترددت كثيرا في إثارته لا لشيء سوى ما اشعر به من ألم حينما استعرض تواجد هذا الفن في هذا المهرجان وبما مر به من مراحل الهبوط والتراجع اكثر من الصعود والتألق إلى أن وصل الأمر به هذا العام إلى التغريد خارج سرب الجنادرية وتواجده في خيمة الامانة بالملز، فلم يحظ بحضن الجنادرية ولا بمشاركته الفعاليات الادبية والفكرية المقامة في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بفندق الانتركونتيننتال ليكون متزامنا ومتواجدا مع اشقاء رحمه الثقافي الآخرين. ما يدفعنا للتساؤل والاستشهاد بالبيت السابق اعترافا ان العيب في التشكيليين خصوصا من يدعون الاهتمام بالمعارض وبتنظيمها، وليس في المهرجان واهله، مستعيدا بعض المواقف البارزة في مسيرة مشاركة الفن التشكيلي بهذا المهرجان الوطني الهام ابتدء من أول معرض أقيم في الجنادرية عام 1405هـ تحت ظلال الخيام في مكان مكشوف تتعرض فيه الأعمال للهواء والغبار استندت فيه اللوحات على جدار طيني شأنه شان كل الفعاليات نظرا لكون الفكرة والتنفيذ لا زالا في طور التجربة والبداية، ومع ذلك كان المعرض وكانت الأعمال وتواجد الفنانين حدثا كبيرا لا يمكن نسيانه من قبل المشاركين وقتها، كانت ليالي الجنادرية الصيفية بنسمات صحراء الرياض الممزوجة بأصوات الطبول والسامري ما أضاف لمسة تراثية أشعرتنا بجمال الوطن وتراثه وكان وجود الفن التشكيلي في هذا المكان ببساطته مع افتقاده اقل التجهيزات الخاصة بالعرض المتعارف عليها في مختلف المتاحف العالمية إلا انه أكثر إشراقا وجمالا وترحيبا بالضيوف والزوار المارين بالموقع، تلك البداية مع حداثة ولادتها وتواضع أسلوب العرض فيها، حظيت فيها عدسة الصفحة التشكيلية بجريدة (الجزيرة) في ذلك الوقت بلقطات جمعت الفنانين الراحلين السليم والرضوي مع من تواجد من الفنانين من مختلف المناطق منهم الفنانون عبدالجبار اليحيا، عبدالرحمن السليمان، ناصر الموسى، محمد المنبف، فهد الربيق وعبدالله العتيق.
لينتقل بعدها إلى رواق خاص بني جدرانه من اللبن وسقف من الخشب والجريد تزينه أعمدة تتماشى مع النسق العام للمباني التي تضم الأنشطة الأخرى (الحرفية) ليستمر التواجد وتتطور أساليب العرض ويشمل الفن التشكيلي ما شمل غيره من اهتمامات فأقيمت له قاعة مغلقه مستقلة تشتمل على أساليب العرض من قواطع وإضاءة، حملت الصالة اسم الفن التشكيلي وأصبحت محط أنظار الجمهور وملتقى سنويا لإبداعات التشكيليين.
محطات مشرقة
تلك المسيرة التي بلغت اثنين وعشرين عاما أقيم فيها اثنان وعشرين معرضا تعرضت للكثير من الصعوبات وتناوب على إقامتها كثير من الجهات والأفراد منها الرئاسة العامة لرعاية الباب وجمعية الثقافة والفنون إضافة إلى تفرق شمل هذا الفن من خلال تخصيص أجنحة له في مقرات المناطق من قبل كل منطقه، أبها، القصيم، المنطقة الشرقية، الغربية إلى آخر المنظومة مما اضعف قيمة الصالة ودورها.
وحينما نستعرض تلك المسيرة نجد ان فيها محطات مشرقة لا يمكن إغفالها أو نسيانها أضفت الكثير على معارض الجنادرية وأضافت جديدا يختلف عن سابقه وعما جاء بعده مع تقديرنا لكل الجهود ولكل من ساهم في إبقاء هذا المعرض على مدى هذه السنوات، فمن المعارض المتميزة او الدورات الناجحة المعرض الذي أقيم عام 1413هـ (جنادريه 7) اشرف عليه الفنانان الدكتور محمد الرصيص والدكتور صالح الزاير، إذ كان المعرض تظاهرة فنية تسامت مع قيمة الفن وأهمية المهرجان وتخللها الكثير من الفعاليات أبرزها الندوات التي شارك فيها عدد من الأسماء اللامعة في النقد وتأليف الكتب الفنية على مستوى العالم العربي كان حضورهم نقلة كبيرة في الفعاليات المنبرية التشكيلية منهم الناقد فرغلي عبدالحفيظ والناقد عفيف بهنسي إضافة إلى أسماء أخرى من الفنانين المحليين والمقيمين ذوي الخبرات والمؤهلات العليا. كما تم رسم عدد من الجداريات وهي خطوة وتجربة جديدة على مجتمع الجنادرية نفذها أسماء هامة في الساحة منهم الفنان عبدالحليم رضوي والفنان احمد المغلوث والفنان عبدالله حماس وغيرهم وازدان بها الجدار المحيط بالصالة وبحجم كبير ملفت للنظر مع ما صاحب المعرض والفعاليات من إصدارات استحقت ضمها إلى مكتبات التشكيليين وابقت أثرا لتك التظاهرة، منها إصدار وثقت فيه ندوات الفن التشكيلي التي صاحبت المعرض وإصدار بعنوان الفنون التشكيلية استعرض فيه الدكتور محمد الرصيص والدكتور صالح الزاير الكثير عن هذا الجانب واعتبره الزميلان في ذلك الوقت موجزا أوليا لكتاب كانا بصدد إعداده سيقوم الحرس الوطني بطباعته بعنوان (الفن التشكيلي السعودي.. دراسة تاريخية تحليلية).
المحطة الأكثر إثارة
أما المحطة الأكثر اثارة ووهجا إعلاميا ومنافسة وجذبا للفنانين كانت عام 1999م (جنادريه 14) حيث قام الحرس الوطني بإعداد مهرجان تشكيلي أشرفت عليه الأميرة الفنانة التشكيلية أضواء بنت يزيد بدعم واهتمام من صاحب السمو الملكي الامير متعب بن عبدالله وشكلت له لجان على أعلى مستوى نسائي ورجالي وأعدت فيه مسابقة عامة رصد لها اكبر جائزة على مستوى المسابقات التشكيلية تمثلت في ثلاث سيارات حصل عليها ثلاثة فنانين وأقيم حفل كبير لتوزيع الجائزة سبقه وتبعه حملة إعلامية متميزة فأصبح هذا المعرض وتلك المسابقة علامة بارزة في مسيرة الفن التشكيلي بمهرجان التراث من حيث مستوى الأعمال وحجم الجائزة.
تراجع أم استغناء
تلك الفترة من تواجد الفن التشكيلي ضمن فعاليات مهرجان التراث والثقافة وبما حظي به هذا الفن من اهتمام وتشريف كبير من المسئولين عن المعرض وبما تحقق له من حضور متميز في محطات عدة خلال السنوات الماضية يدفعنا للتساؤل عن أسباب تواجده هذا العام خارج السرب وإقامته في موقع لا يوحي بأن له علاقة بالمهرجان مع أنه بالإمكان إقامته في موقعه السابق داخل محيط الجنادرية أو ضمن موقع الندوات والمحاضرات كما اشرنا، والسؤال أو التساؤل موصول تجاه إلغاء الصالة الخاصة بالفنون التشكيلة وتحويلها إلى صالة أنشطة أخرى مع ان مساحة موقع المهرجان تمكن المسئولين من إقامة قاعات اكبر وأكثر استيعابا للأنشطة الثقافية الأخرى، هذه التساؤلات مبعثها حرصنا عل هذا الفن وغيرتنا عليه وان له حقا كما لبقية الأنشطة الثقافية من حقوق باعتباره رافدا من روافدها.
وإذا كنا متفقين على أن إدارة المهرجان أعطت لهذا الفن مساحة من الاهتمام طوال تلك الأعوام فإننا أيضا نطمع في ألا تتخلى عنه أو تستبعده إلا إذا كان الأمر يتعلق بالفنانين أو بمستوى ما يقدم من أعمال في المعارض الأخيرة ما يدعو أو يبرر هذا الإجراء المتمثل في إقامته بشكل مستقل ودون أي رعاية للمعرض أو تشريف للافتتاح.
تكريم متواضع
فكرة تكريم رواد الفن التشكيلي ضمن فعاليات معرض الفنون التشكيلية العام لمنصرم بداية بالفنان محمد السليم وما يتردد هذه الأيام من تكريم للفنان الرضوي خطوة جميلة سعى المشرفون على المعرض لتحقيقها لتعيد بعض التوازن وتلفت النظر لهذا النشاط، ومع أن الفكرة مقبولة وبادرة إنسانية خصوصا لمن رحلوا إلا أن مستوى التنفيذ لم يكن محققا للآمال واقتصر على دعوة ابن الراحل السليم ومنحه درعا لم يره إلا من حضر التكريم أو قرأ الخبر مع ضعف التغطية الإعلامية مع أن بإمكان إدارة المهرجان والمشرفين على المعرض إقامة معرض خاص للمكرّم مع طباعة كتاب شامل عن سيرته الذاتية ولوحاته كتوثيق ومرجع، لا زالت المكتبة التشكيلة في حاجة ماسة له.
الفن (اللقيط)
أعود لبداية الموضوع ولبيت الشعر (نعيب زماننا والعيب فينا.. وما لزماننا عيب سوانا) بعد تحويره إلى (نعيب معارضنا والعيب فينا.. وما لمعارضنا عيب سوانا) أقولها وأمري لله مع استعداد لتحمل أي رد فعل فالفن التشكيلي أصبح كاللقيط لا يدري من اين جاء والى اين يذهب ومن المعني به، تارة تجده في الأسواق التجارية وتارة على هامش فعاليات وأخرى يظهر بمستوى سيئ في الشكل والمضمون، والأسباب تعود لمن يقوم على هذه المعارض من الفنانين دون وعي بما تعنيه او بما يمكن ان تحققه او تعود به من نتائج، إضافة لعدم وجود جهة معنية به تضع لتواجده ضوابط وتشترط منحه قيمته وتنتقي المناسبة التي ترفع من شأنه وتقدر حضوره وتهيئ له سبل النجاح.
**
لإبداء الرأي حول هذا الموضوع أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«6461» ثم أرسلها إلى الكود 82244