شخوص هذه الرواية يقررون أن يعيدوا رسم خريطة الحكاية الجديدة على أنقاض مقولات قديمة، مدفوعين بهذا الكم الهائل من الاستنتاجات العميقة للراوي العليم بكل كبيرة وصغيرة عن أمر البلاد التي باتت تتأرجح بين السفوح والهاوية.
د. منذر القباني يطل على القارئ بروايته الجديدة (حكومة الظل) معتمداً في مصافحته الأولى أن يكون موضوعياً، وواقعياً في سرد العديد من الحكايات المتشابكة حول هم الحياة.. فها هو يصف لنا أبرز شخوص الرواية متمثلاً بعوالم (د. عبدالقادر) حينما يضفي على حياة من حوله هالة من التشويق والتعالق بين المشاعر والأهواء.. فزيارة (نعيم) لأستاذه عبدالقادر تعد إسقاطاً على الحالة العامة التي يريدها الكاتب لروايته، حيث تتحول المكابدة إلى مجرد لوحة مألوفة للحياة الجديدة.. تلك التي تستحق منا إلى حسن إنصات وتمعن لكي نستخلص الرؤية المهمة في هذه المكابدة اليومية.
يصور لنا الدكتور منذر القباني عالم السياسة الذي لم يعد خافياً على أحد، بل أصبح حالة مألوفة في تضاعيف حكايتنا اليومية الموغلة في تكرارها، فالعرب - كما تشير الرواية - لم ينجزوا حتى الآن أي وعد يمكن أن يركن إليه.
في تفاصيل الرواية يُطوف بنا الراوي على أرجاء عديدة من التاريخ والجغرافيا، حيث يخرج (عبدالقادر) من حقبة تاريخية إلى أخرى، لنراه وقد أعاد جذور معضلتنا في اللوحة الخامسة إلى عهد قديم منذ أن تهاوت آخر خلافة للعرب والمسلمين، أي قبل نحو مائة عام.. فيما يرى - الراوي - أن الجغرافيا قد تبدلت فعلاً، وأصبحت حالة من نثار جغرافي متبدد بلا هوية أو مضمون.
فالروائي الدكتور القباني يأخذ على نفسه عهداً بأن يكون أكثر واقعية في تحريك الأحداث، إذ يستعرض لنا البعد الحقيقي لتهاوي حلم العرب، على نحو ما استشرفه (خليل الوزان) في اللوحة السادسة من الرواية حينما أبان أن تحولنا في المائة عام الماضية هو إنذار بتهاوي الحال إلى ما هو أسوأ.
حقيقة التاريخ هي التي تُنبشُ من قبرها الآن.. بل هي الواقع الذي لم يتغير نحو الأفضل.. بل ظل حالة عصية على الفهم، فلا (خليل الوزان) أو (نعيم الوزان) أو أي حفيد منتظر يمكن له أن يعيد تفاصيل حكايتنا بفأل ممكن.
تتداخل الرؤى في رواية (حكومة الظل) ليقيم الكاتب جسراً دلالياً بين الماضي الذي أعد له قوة ضاربة، وبين حاضرنا الذي بات يجني ثمار غفلته.. بل إن المستقبل أصبح أكثر ضبابية وتهالكاً في وجه هذه المعضلات، والمثبطات والخيبات الكثيرة.
يحاول الراوي أن يوجد من الحاضر رؤية أكثر تفاؤلاً لكنه يربطها في (اللوحة السابعة) بواقع العلاقات الجديدة بين الناس حينما يضع الدكتور عبدالقادر حداً لحياته، أما على يده، أو على يدي الخصوم والمناوئين في حياة المادة المؤذية.. فاللوحة السابعة في الرواية هي لحظة تنوير حقيقية لمآل حلم الراوي الذي أخذ يكتشف الحقيقة (على مهل الأحداث) وبأكثر من رؤية.
تسير الرواية على هذا النحو الاسترجاعي للأحداث التاريخية، حيث يأتي الخيط الرفيع ممثلاً في تحرك (طلعت) في آفاق كثيرة محاولاً استثارة الأحداث لكيلا تكون جامدة أو مكررة.. فها هو يصف كل صغيرة وكبيرة في رحلته بين (الرياض) و(الدار البيضاء) محاولاً في سياق هذه الحكاية أن يكون أكثر أمانة في نقل الواقع الذي يفرض وجوده على أحداث الرواية، فكان أميناً في نقل تلك الصور والمقولات.
ولم تكن الرواية كما أراد لها الكاتب في عبارات وردت على الغلاف الخارجي بأنها مزيج بين الخيال والواقع، إنما جاءت واقعاً خالصاً، يسلط الضوء على الحقيقة التي قد يتعامى عنها البعض إنما يرى الدكتور (القباني) أنها مهمة من أجل كشف المستور لتكون للأجيال القادمة حرية القرار في نعتنا بالمضيعين أو المتهاوين، أو المتخاذلين، أو ما إلى ذلك من صفات تعلق بنا نحن العرب هذه الأيام.
المقولة تلو المقولة، والحكاية تلو الأخرى تحاول أن تصنع من الواقع أيقونة مضيئة لمن سيقرأ واقعنا الآتي.. ذلك الذي يسميه البعض مستقبلاً، فيما يراه البعض الآخر مجهولاً يتربص ببعض آمالنا.. وحده الواقع القاتم هو الذي نعيشه.. وذات ما تشي به عوالم الرواية رغم محاولات الكاتب خلق فضاء حيادي يصور الأحداث ولا يتدخل بها.
تعد رواية (حكومة الظل) مشروعاً سردياً (سيرياً) يعرض الأحداث ويسلسلها لكي تكون حالة من المكاشفة الجديدة لواقع يزداد اضطراباً، وتيهاً في ثنايا المجهول.. فهي أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى (فن الرواية) ذلك أن الدكتور القباني عمد إلى استقصاء تاريخ حكايتنا منذ أن أخذت تتهاوى كيانات الوطن حتى انغمسنا في وحل المادة، لترتسم في هذه الأفق مثبطات ومعوقات رأى أنها جديرة بالتدوين على هيئة لوحات حكائية غاية في الواقعية.
***
لإبداء الرأي حول هذه المطالعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5217» ثم أرسلها إلى الكود 82244
إشارة:
* حكومة الظل (الرواية)
* د. منذر القباني
* مركز الراية - دمشق 2006م
* تقع الرواية في نحو (246 صفحة) من القطع المتوسط