الأسطورة الثانية:
جمانة الهندية وماتيلدا الأمريكية
في العام 1912 كتب نورمان دوغلاس بعد زيارة خاطفة إلى الصحراء الجزائرية قائلاً: (لقد استُودع في المرأة العربية كل تفاهات العرب المتراكمة وهي تؤثر على الأجيال الشابة ثأثيراً رجعياً وضاراً. وهذا أمر لا تظهر آثاره كثيراً في الصحراء، حيث يعيش الرجال والنساء عيشة أقرب ما تكون إلى البهائم... لقد وقع المحظور ولم يعدّ هناك من فائدة فالعربي مرتد بطبيعته).
وفي تموز - يوليو 2004م كتبت جاكلين روز في مجلة (لندن) للكتاب (أبو غريب تحت ضوء فرويد) قائلة: (مراراً قيل لنا في الأسابيع الأخيرة، ربما لتلطيف مشاعرنا، أن ما فعلناه في أبو غريب ليس شيئاً مقارنة بالإعدامات وصنوف التعذيب أيام صدام حسين).
النص المريع الذي كتب نورمان دوغلاس في عصر الاستشراق الكلاسيكي عن (تفاهات) المرأة العربية التي هي باقتضاب (تفاهات) العرب المُستودعة فيها، يقابله نص جرئ متصادم مع قيم ورؤى عصر ما بعد الاستشراق لجاكلين روز، التي رأت في ضوء نظرية فرويد أن سجن أبو غريب، يمكن أن يكون دليلاً على المدى الذي بلغه ما بعد الاستشراق في تزوير الحقيقة عن الشرق القديم.
في الواقع لا يجرؤ سوى رحالة القرنين الماضيين على كتابة هذا النوع من الانطباعات، التي لا تمثل فيها أحكام قاطعة من هذا النوع مصدر مفاجأة بالنسبة لمعظم أو كل قراء النصوص الاستشراقية، ممن يعرفون جيداً وجهات نظر الرحالة الأجانب. بيد أن مصدر المفاجأة والإثارة على حد سواء سوف يكمنان مع ذلك، خارج هذا النوع من الأحكام وخارج النص نفسه.
وحين نعلم أن (التفاهات) المُستودعة عند (المرأة العربية) نفسها، هي تماماً وبالضبط مصدر وعي الغرب للشرق، فإن مصدر الفهم الشائع والأكثر طغياناً في المؤلفات الصادرة اليوم لعالم العرب بشكل عام، وللعراق بشكل خاص، سيغدو مفهوماً.
كان سجن أبو غريب طوال سنوات من الخصومة والعداء بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، أهم مصدر لإنشاء شرق خيالي (بتعبير إدوارد سعيد). ولذلك لقيت قصة جمانة وأسطورة (اغتصابها) وتعذيبها بسبب رغبتها بالزواج من رجل أجنبي (هندي) أحبته وعشقته ولكن (العرب والمسلمين في هذا المجتمع المتوحش) أرغموها على التبرؤ من الحب، ثم جرى اعتقالها وتعذيبها في وقت تالٍ؛ رواجاً هائلاً في سوق الإعلام.
هذه المرة لم يكن غرض ما بعد الاستشراق (إنشاء شرق آخر)؛ بل على الأرجح إنشاء (عراق آخر) يظهر فيه ملك شرقي يحتفظ بنساء عاشقات جميلات وحبيسات السجن الرهيب. وبينما راح الجمهور الأمريكي يتتبع بأنفاس مقطوعة، أدق التفاصيل عبر الواشنطن بوست وبعض الفضائيات عن السجن والممارسات التي قيل له إنها (مذلة ومهينة بشكل لا يوصف)؛ كان جنرالات البنتاغون يضعون آخر اللمسات على عمليات التحضير للغزو من أجل (تحطيم الباستيل العراقي) وتحرير النساء الشرقيات الأسيرات).
في هذا الوقت (مطلع 2003) كانت ماتيلدا انجلند تتأهب للالتحاق كمجندة بوحدتها العسكرية المرسلة إلى جبهة الحرب، بينما كانت جُمانة حنا العراقية تصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية قادمة من بريطانيا، ولتغدو بسرعة، بطلة شعبية تعم صورتها البطولية مدن الولايات المتحدة الأمريكية بفضل الواشنطن بوست، التي اهتمت أكثر من المعتاد بنشر (أسطورتها) في سجن أبو غريب.
لم يكن هناك من هو على استعداد لتكذيب البطلة أو التشكيك بروايتها أو (تفاهاتها المُستودعة) -بحسب نص نورمان دوغلاس عن المرأة الشرقية التي أستودع العرب لديها كل تفاهاتهم-.
لقد كانت الدرر والجواهر تتساقط من فم جُمانة بينما يرتفع سعرها في بورصة الإعلام، وتغدو أكثر فأكثر غالية الثمن ومطلوبة وضرورية، مع أن ما يتساقط من الفم قد يبدو للناظر أقل قيمة من معدن عادي ورخيص الثمن.
على غير توقع بعد احتلال بغداد مباشرة، وحين أصبح سجن أبو غريب تحت سيطرة وإدارة الجيش الأمريكي، تداعت أركان الأسطورة وتلاشى التاريخ الزائف الذي أنشأه الغرب كما لو كان فقاعة. لم تكن هناك رؤوس مقطوعة ولا عاشقات جرى حبسهن بسبب الحب. ولكن بدلاً من الحديث عن (تفاهات) المرأة العربية كما في عصر الاستشراق؛ فإن الغرب وإزاء قضية مفرطة الحساسية تخص ما بعد الاستشراق في الصميم بوصفه (علم اكتشاف العرب المسلمين) وجد نفسه مرغماً وهو يتحدث بشيء من الرطانة عن (تفاهات امرأة شرقية) بعينها خدعته بأكاذيبها.
رمزياً وحسب منطق السرد الأسطوري، بدت المرأة كما لو أنها كانت، في تلك اللحظات وحيث روت قصة موتها وبعثها من جديد، تتمثل التاريخ الكولنيالي برمته من التضليل والخداع والغش، وإلى الحد الذي أصبحت فيه منافساً عنيداً للغرب في صناعة الكذب والنفاق.
لقد استولى الأمريكيون على سجن أبو غريب ولكنهم لم يعثروا على أي دليل يؤيد أسطورة جمانة حنا. مع اكتشاف الغرب لفضيحة أبو غريب جمانة - أي السجن الذي قامت الضحية المزعومة بإنشائه خياليا وتصورته، أصبح هناك من هو على استعداد حقيقي ليكون منافساً للغرب وبعناد على تأليف الأساطير الضرورية واللازمة. وذلك ما أغضب الغرب كلّه وأثار حنق واستياء الأمريكيين بشكل أدق.
كان سجن أبو غريب في تلك الآونة من (اختراعهم) وأساطيره من صنعهم، وما كان ضرورياً وجود سارد منافس تعج روايته بالأخطاء والهفوات المدًمرة. ثمة امرأة شرقية، مع ذلك من صنعه واختراعه و(خلقه) وقد خرجت إلى الملأ لتنافسه على سرد الرواية.
لم تأت الضحية الشرقية من حكايات (ألف ليلة وليلة) ولا من صحراء الجزائر (عندما كتب دوغلاس نصه) بل جاءت من المكان نفسه الذي تخيله الأمريكيون كمكان للرعب، حيث يجري تعذيب النساء في أقبية سرية.
لقد جاءت من السجن الذي سوف تخدم فيه ماتيلدا انجلند كسجانة.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244