في رواية الكاتب السوري عماد شيحا (غبار الطلع - 2006) صورة جديدة للديكتاتور، تنضاف إلى الصور التي رسمتها روايات واسيني الأعرج وفاضل العزاوي وزهير الجزائري وسالم بن حميش وأبو بكر العيادي وغازي القصيبي وكاتب هذه السطور وسواهم.
يحمل ديكتاتور رواية (غبار الطلع) اسم فاتك. وتكتفي الرواية من نشأته بالنزر الذي يرسمه مدفوعاً بجبروته وبعنفوان الاستيلاء على مقدرات الناس، إلى التطلع إلى أعلى المراتب: (يدير بعناية ودقة آليات الصراع والتنافس بين زملائه مستفيداً من تناقضاتهم ليضرب بعضهم بعضاً متخذاً دور الحكم الذي سيصغي الجميع إليه ويأتمرون بأمره، ويحيك المؤامرات الرخيصة للإيقاع بمن يتمرد عليه ولا يذعن له، فيزيحه من منصبه أو من الوجود).
تختار الرواية من المآل الذي آل إليه فاتك، كوحش قابض على الزمام، علاقته بالتجار.
فقد بات يمقت لقاءهم الذي يضطره إلى التصاغر أمامهم وإلى الانحناء أمام سطوة المال (صحيح أنه يملك الكثير ولو أنه لا يحسن استثماره وتنميته، فيضطر للاعتماد على شركاء يحسنون فعل ذلك. في البداية يتزلفونه ويتملقونه بما يرضي غروره، يتطامنون تصل لحدود تسخير جهاز أمنه لتأمين أعمالهم وإنجازها، ثم شيئاً فشيئاً يبدأ بالتبسط معهم، ومع انسكاب مزيد من الأموال في حساباته المصرفية الخارجية يبدأون بالتطاول حتى يشعر أنهم أنداد، فيقبل صاغراً أن تتحول طلبات بعضهم إلى اوامر يملونها وما عليه إلا تنفيذها بغير نقاش).
وهكذا، يتحمل فترة، ثم يطفح الكيل به، فيهيئ أحدهم للذبح كبش فداء في محرقة تروّع الشركاء، ومن جديد تعود الكرة، وهو يدرك أنه لو استثمر بمعاملة الشركاء كخدم وعبيد، فسينقلبون عليه، ويتحالفون مع غيره، جاعلينهم شركاء يؤلبونهم عليه، فيضعف مركز قوته، ويضطر للصراع على أكثرمن جبهة، ذلك أن فاتك ليس الديكتاتور الوحيد، أو لم يبلغ بعد ما يطمح إليه من أن يكون الديكتاتور الوحيد.
وفي سبيله إلى ذلك لا تفوته المتاجرة بالشعارات البراقة. نفسه يصف شركاءه بتجار البضائع الفاسدة، وبالمتاجرين بقوت الشعب، وبالأدوات المحلية المباشرة لتنفيذ مؤامرة خارجية: (لم يكن فاتك غبياً، كذلك لم يكن شديد الذكاء. لكن مهنته ألبسته حنكة اعتاد استخدامها للإيقاع بمن يعتبرهم أعداء شخصيين له. لم يكن يرى فيهم بشراً لهم مواقف قد يختلف فيها معهم أو قد يتفق بل يهتم بأنهم وقفوا في وجهه أو وجه ما يمثله. ساعتها، ينبذ ما تحويه رؤوسهم ويتجه مباشرة لأرواحهم وعناصر التمرد في إرادتهم.. يلعب لعبته وقد استمالت المسألة برمتها لقضية شخصية عليه تصفيتها بما يلائم هواه.
ربما كان ذلك واحداً من عوامل رفعت أسهمه وأوصلته لموضع تحول بفعل جهارته والفوضى التي تلغي خوف المساءلة، إلى مملكة خاصة شُرّع لها فيها أن يكون نصف إله أو إلهاً كاملاً في قطيع آلهة تهشها عصا واحدة..).
هكذا تضيئ الرواية دخيلة تلك الشخصية التي صارت فرعوناً صغيراً في سبيله إلى أن يكون الفرعون الكبير. وهذا الفرعون الصغير أقام مركز عملياته المحصن في بناء يفوق عدد طوابقه تحت الأرضية ظاهر طوابقه المتعالية.
هذا الفرعون يبدأ يومه من منتصف ليل إلى منتصف ليل، إذ يملأ نداؤه الأجواء ويخالط الهواء وتسمعه الدماء ويلاحق المرء أنى ذهب وحيثما حل، فيتحول رجاله: (من أصغر حارس وخفير يراقب بعين يقظة من موضع سري دون أن يثير شبهة كونه حارساً، وحتى أكبر أعوانه، إلى مجرد آلات حماء بكماء برمجت عناصرها الحركية بحيث تؤدي ما يُطلب منها بإذعان وآلية مفرطة، بقي من آدميتهم أو من عناصر ارتباطهم بالحياة نباتية كانت أم حيوانية أم بشرية شيء وحيد، رعب هائل يولد حضوره وخوف متبطن يواصل شحنهم بالوجل خلال غيبته، لا يجدون مفراً من تخلصهم من فائضه المتكاثر بواسطة طاقات مجهولة إلا بتوزيعه وفرضه على كل من هو خارج أسوارهم الحصينة وعلى كل من تزل قدمه فيزور طوابقهم السفلية، لا يُستثنى من ذلك الأحياء ولا الأموات، فإن لم يفعلوا ذلك سيضيقون ذرعاً بأنفسهم وينقلبون عليها مدمرين أجهزتها الداخلية، ناشرين الخراب والفساد في آلياتها لتعود سيرتها الأولى خاماً حيادياً ينتظر كفاً تصوغه وتشكله ثم تنفخ فيه من روحها وتشويه في فرنها).