.. واختار كاتب هذه السطور أن تكون ورقته في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي- الذي أقامته الجمعية المصرية للنقد الأدبي، في القاهرة، في الفترة من 1 نوفمبر إلى 5 نوفمبر 2006، تحت شعار (البلاغة والدراسات البلاغية)- لا في رحاب التراث ولا في التنظير المطلق، بل في واقع الأدب المعاصر في المملكة العربية السعودية، وذلك من خلال بحثه بعنوان القصيدة- الرواية: تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر (الحزام لأبي دهمان: نموذجًا).
وقد حظيت الورقة باستقبال جيّد، لم يغب عنه تشوّف الحاضرين إلى التعرّف على الأدب في السعودية، في ظل ما يؤسف له من غياب التواصل الثقافي، حتى بين أقطار الوطن العربي، ناهيك عن سواه. كما استأثرت الورقة بنقاش مفيد، حتى لقد وصفها ياروسلاف استيتكيفيتش Jaroslav Stetkevych- الباحث المعروف في التراث العربي وأستاذ الدراسات الشرقية في الجامعات الأمريكية- بأنها تأتي بمثابة بحث عن وليد جديد في الجنس
الأدبي والمصطلح!
وفيما يلي ملخص الورقة:
(1)
إذا كانت الرواية في العصر الحديث قد جاءت وريثة الملحمة الشعرية، فإن (القصيدة-الرواية) تأتي بمثابة ارتدادٍ إلى نوع من ذلك الجنس الأدبي المهجور.
غير أن (القصيدة-الرواية) تتخلص من حدّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين- الشعريّ والروائيّ- كي تُنشئ نمطاً جديداً من التماهي بينهما، وإن كانت كفّة الشعريّ فيهما تميل إلى الرجحان.
وفي البحث عن مصطلح ملائم، فإن قصارى ما يلفيه الباحث في النقد الأدبي الحديث هو مصطلح ك
(الرواية الشعرية)، لدى جان إيف تادييه Jean Tadi'e. وهو مصطلح يعبّر عن اختلاط الشعر بالنثر، في ضرب من تقنيات الخطاب الروائي الحديث. أي أن مصطلح (الرواية الشعرية) ما هو إلا محاولة لفرز تلك الرواية المتميّزة بمسحة شعرية عن الرواية النثرية الاعتيادية. فهو إذن نظير مصطلحات سردية أخرى، ك(الرواية البوليسية)، أو (الرواية الغرائبية)، أو (رواية المغامرات).
أمّا ما دراستنا بصدده فيتجاوز فضفاضية ذلك المفهوم عن (الرواية الشعرية) - الدائر في فلك الرواية أصلاً، بوصفها جنساً أدبيّا- من حيث إن النموذج المدروس هنا تكاد تمّحي هويته الروائية في شعريته المطلقة، ما يسوّغ أن يُتّخذَ له مصطلح جنسيّ جديد، أشد تحديداً وأضيق تبئيراً، يجاري هذا التطوّر الكتابي ويلائم طبيعته، ألا وهو: (القصيدة-الرواية).
إن مغامرات الشعراء في الكتابة الروائية أوسع من أن تُستقرأ، لا عالميّاً- ومنذ (مجنون إلسا)، لأراغون، على سبيل التمثيل- ولا عربيًّا، منذ (ليالي سطيح)، لحافظ إبراهيم. أمّا تداخل الشعري بالسردي في النص المعاصر، فظاهرة أوسع من هذا بكثير، تظهر في أعمال غابرييل غارسيا ماركيز، كما تظهر عربيًّا في روايات مختلفة، ك(البحث عن مسعود)، لجبرا إبراهيم جبرا، و(الزمن الموحش)، لحيدر حيدر، و(رامة والتنين)، لإدوار الخراط- صاحب المصطلح المعروف به: (الكتابة عبر النوعية)- وصولاً إلى (ذاكرة الجسد)، لأحلام مستغانمي، أو (الباذنجانة الزرقاء)، و(الخباء)، و(نقرات الظباء)، لميرال الطحاوي.
وفي السعوديّة تتبدّى تلك الظاهرة عبر نصوص شتى، إلا أن هناك ثلاثة نصوصٍ تُشكّل جنسًا كتابيًّا تقترح هذه الورقة تمييزه بمصطلحها الخاص: (القصيدة- الرواية). ولم يكن نَصّ (سقف الكفاية)، لمحمد حسن علوان، 2002م، أول نص من ذلك الشكل الكتابيّ، بل كان من أواخر التجلّيات الصارخة لهذا الاتجاه في السرد الروائي في السعودية. ومن أهم الشعراء الذين سبقوه إلى ذلك: (أحمد أبو دهمان)، في (الحزام)، الترجمة العربية: 2001، وقبله: (علي الدميني)، في (الغيمة الرصاصية)، 1998م.
وليس ما يمكن أن تقوم عليه أطروحة كهذه متمثّلاً في نصوص لشعراء كتبوا أعمالاً روائية، ولا في محض نصوص تتداخل فيها الرواية بالشعر. لأن الفئة الأولى لا تشكّل بالضرورة نوعاً أدبيًّا، والفئة الأخرى إنما تمثّل تلاقحاً طبيعيًّا بين جنسين أدبيين: الرواية والشعر، لا تذهب بهوية الرواية، بوصفها جنساً أدبيًّا، ولا تقيم لغة شعرية قوية النسب في خصائص الشعر، بل تظل في النطاق المحدود لشعرية النثر الفني. أمّا ما تقوم عليه أطروحة هذا البحث فنصوصٌ لها خصائص مائزة نوعيًّا، وذلك:
1) لأن كتّابها شعراء أولاً، وعُرفوا أساسًا بالشعر، ومارسوه جُلّ حياتهم، حتى انطبعت شخصيته على لغتهم وأساليبهم، على تفاوت ما بينهم في الشهرة والتجربة والشعرية.
2) أن ما أنجزوه- تحت مصطلح رواية- ما هو إلا نصوص شعرية في لغتها وبنائها، تتشبّه للقارئ في قوالب روائية أوّل وهلة، فإذا ما أمعن فيها النظر، تكشّفت له عن أنها لا بروايات حقيقية ولا بقصائد خالصة، بل هي بين بين، في منطقة وسطى بين جنسين. وآنئذٍ، تستحق أن تُشخَّص بوصفها جنساً ثالثاً، اقترح الباحث في مقاربات هذا الموضوع السالفة أن يُدعى: (القصيدة-الرواية).
(2)
ومعروف أن نموذج هذه القراءة- نص (الحزام)، لأبي دهمان- كتب لأول مرة باللغة الفرنسية، وطبع سنة 2000، (Gallimard Paris). ثم تُرجم إلى العربية في طبعته الأولى سنة 2001، دار الساقي، بيروت. ولئن كان النص الشعري يَفْسُد بترجمته، فإن الترجمان في (الحزام) هو المؤلف نفسه. على أنه يمكن القول إن قارئ (الحزام) العربي ليس بإزاء ترجمة، وإنما هو بإزاء نصّ أصيل، ليس لأنه تُرجم من قِبَل مؤلّفه فحسب، ولكن أيضاً لأنه يمثّل ذاكرة الكاتب ولغته الأُمّ، بحيث يمكن القول إن النص العربي هو النص المترجم إلى الفرنسية، وليس العكس.
ولا تختلف لغة (الحزام) في كثافة شعريتها عن لغة (سقف الكفاية)، في توظيفها لمختلف العناصر الشعرية، الصوتية والدلالية، في شتى أجزاء النص. كأن يقول، من (مدخل) النص، في إيقاع شعري انزياحي واضح (ص11):
(في باريس احتميت بقريتي،
أحملها كنار لا تنطفئ،
أُلقي السلام بصوت مرتفع كما كنّا نفعل،
وعندما اكتشفت أنهم لا يسمعون
ألقيت السلام على السلام بصوت خفيض.
كتبتُ (الحزام) لألقي السلام بالصوت الذي يمكن أن يسمعوه،
إذ عرفت بعد سنوات عديدة أن الشعوب القارئة لا تسمع إلا الصوت المكتوب،
سمعوا سلامي وردوا التحية بأحسن منها.
رأيت الحزام في الواجهات،
في البيوت،
علّقه بعضهم على جسده كما نفعل في القرية،
اتسعت قريتي واستعدنا السلام).
على أن الجديد في (الحزام)، إذا ما قورن ب(سقف الكفاية)، أنه نصٌّ يتجاوز في شعريته أبعاد اللغة إلى البناء الرؤيويّ للنص، من حيث هو يتشكّل في نسقٍ تركيبيّ شعريّ، بدءاً من تراتب عناوين النص إلى تناولات كل عنوان.
ونواصل عرض هذا البحث في المساق الآتي، بإذن الله.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* عضو مجلس الشورى
aalfaify@hotmail.com