أواصل هنا ما ابتدأته في المقالة الماضية من مناقشة لبعض أطروحات الدكتور شكري عياد النقدية ولاسيما نقده للاتجاهات الحديثة في النقد الغربي الحديث. ذلك النقد ينطلق من قناعته الأساسية بالاختلاف الحضاري والحاجة إلى الانطلاق منه بوصفه معطى. وهو في هذا السياق حريص على تطوير مفهوم (التأصيل) بوصفه مخرجاً من مأزق المناهج والنظريات. فمن خلال التأصيل يمكن للناقد أن يجمع الوعي بالأطروحات الغربية إلى استلهام الموروث لإيجاد صيغة جديدة. فالتأصيل ليس تخلياً عن المعطى الغربي وإنما إعادة إنتاج له توائم بين الذات بخصوصيتها ومتطلبات الثقافة الوافدة باختلافها: (إن فكرة التأصيل لا تولي ظهرها للثقافة الغربية بل إنها ما كانت لتوجد لولا لقاؤها بهذه الحضارة).
إن عياد لا يقدم لنا الوصفة المنتظرة للخروج بنظرية أو نظريات عربية في النقد، وفكرة التأصيل ليست أكثر من مؤشر بذلك الاتجاه. لكن ما يفعله عياد هو أولاً أنه يرفع معدل الوعي بإشكالية الاتكاء على النظريات الجاهزة كائناً ما كان المبرر لذلك (عالمية النظريات، صحتها، وحدة البشرية، .. الخ)، ثم إنه ثانياً يطرح تجربته في مواجهة تلك الإشكالية أو التحدي، وهي بالتأكيد تجربة ثرية لمن يدرسها. بالإضافة إلى ذلك يطرح عياد رؤية حول إمكانية صياغة (نظرية عربية في النقد) في مقالتين من كتابه (على هامش النقد) تتلخص في أن النظرية لا توضع عن سابق قصد وتخطيط وإنما تتطور على نحو غير مباشر من خلال الممارسة النقدية. ف (نحن النقاد)، كما يقول،
قد تكون لنا نظرية ولكننا لا نعرفها ولا نصفها، لأننا لا ننظر إليها من خارجها. نحن ننقد فحسب.. وإذا رأى من بعدنا أن ينظروا في هذا النقد فقد يجدون فيه نظرية، وقد لا يجدون، وقد يعطون النظرية اسماً، وسنكون نحن - إن كنا بعد أحياء -
أول من يتبرأ من الاسم ومن النظرية!.
في نهاية المطاف سيتبين لنا أن إشكالية الإسهام العربي المميز في النقد الأدبي المعاصر تأتي ضمن إشكالية حضارية أكبر: فهل لدينا إسهام عربي مميز - باختلافه الثقافي والفكري والعلمي - في الفلسفة أو علم الاجتماع أو علم النفس أو أيّ من العلوم الإنسانية أو الاجتماعية، أم أن ما لدينا ليس في أفضل الظروف سوى ترديد لما يطرح في المراجع الغربية مع تعديلات تكاد تكون حتمية لاختلاف الظروف والحاجة إلى الانتقاء، وهو انتقاء تمليه أحياناً مصالح سياسية تبعد هذا الاتجاه وتقرب ذاك، أو مصالح أيديولوجية تفضل اتجاهاً على آخر، كأن يفضل الاتجاه الماركسي أو الواقعي في بيئات ثقافية عربية بدلا من الاتجاه الشكلاني أو العكس وتبعاً لرؤية الناقد نفسه بطبيعة الحال.
إن إمكانية تطوير نظرية متميزة بانتمائها للثقافة العربية وللظروف التاريخية التي تعيشها المنطقة واضحة في ما حدث لدى فئة من نقاد ينتمون وإن جزئياً إلى العالم الثالث ولاسيما الهند وإفريقيا ممن اشتغلوا على ما يعرف بالدراسات ما بعد الاستعمارية، فهذه الدراسات نشأت استجابة لظروف تاريخية وحضارية لا تعني المجتمعات الأوروبية بقدر ما تعني المنتمين إلى المناطق التي سبق استعمارها. فابتداءً بفرانز فانون ومروراً بإدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهم تطورت النظرية النقدية ما بعد الاستعمارية، أو ما بعد الكولونيالية، باتجاهات بالغة الثراء والدلالة على إمكانية الاختلاف الثقافي، في الدرس والبحث الأدبي والثقافي عموماً، عن المعطيات الأوروبية أو الغربية المباشرة. غير أن الملاحظ أن معظم ذلك التطور حدث في بيئات غربية أصلاً، كما يلاحظ الهندي إعجاز أحمد في نقده لبعض تلك التوجهات. وفي تقديري أن ذلك لا يقلل من أهمية المنجز لأن الاختلاف الثقافي الذي مثله النقاد الذين عملوا على تطوير تلك الدراسات استمدوا بعض، أو الكثير من، عناصر تكوينهم من بيئاتهم الأصلية. ففانون الإفريقي وسعيد العربي وهومي بابا الهندي كانوا بتلك الخلفيات الثقافية - الاجتماعية مؤسسين لتوجه لم يكن ليتطور في بريطانيا أو فرنسا لدى سكانها الأوروبيين، تماماً مثلما أن نظريات البنيوية أو التقويض أو التحليل النفسي لم يكن ممكناً تصور تطورها في إفريقيا أو العالم العربي بالشروط والظروف التي أدت إلى ذلك التطور على النحو المعروف.
السؤال هو: لماذا لم ينطلق حتى الآن ناقد عربي واحد من البلاد العربية ليشارك في صياغة هذا الاتجاه الأخير بوصفه الأقرب إلى التميز غير الأوروبي؟ هناك بالتأكيد بعض الإسهامات الجادة لكنها لا ترقى إلى ما نجد لدى بعض من ذكرت من غير العرب. أما إدوارد سعيد فمن المؤكد أو شبه المؤكد أنه لم يكن ليطور ما طوره لو أنه ظل في بلد عربي، أو لو أنه لم يكتسب مكوناً غربياً رئيساً في تشكيله الثقافي والعلمي.
إن النماذج التي طرحتها في ثنايا هذه المداخلة قادرة على بعث الأمل في حدوث الانطلاقة العربية، لكن ذلك يستلزم شروطاً بطبيعة الحال منها الحوار الجاد والاستيعاب المعرفي لما هو مطروح، بالإضافة إلى شرط آخر أريد أن أختم به هذه المداخلة.
إن النصوص الأدبية تعد بحد ذاتها منطلقاً مهماً لتطوير النظريات، وأعني هنا أن الناقد بحاجة إلى الانشغال بتحليل النصوص بوصف ذلك رافداً مهماً، وإن لم يكن كافياً بحد ذاته، لتحقيق الأصالة النقدية المنشودة. فلا شك أن النظريات الغربية اتكأت في تطورها على مصادر عدة منها الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، كما أن منها النصوص الأدبية، بل إن النصوص تأتي في الطليعة من حيث هي توفر المادة الأساسية للاشتغال النقدي. وفي عصرنا الحديث يظل الأدب العربي أكثر انتماءً لمكوناته البيئية على اختلافها من الأطروحات العلمية المختلفة، ولم يكن غريباً أن يحقق العرب حضوراً عالمياً من خلال الأدب وليس من خلال العلوم أو الفكر. فما يترجم من الثقافة العربية هو أدب بالدرجة الأولى ولا أعرف كم ترجم من النتاج الفكري العربي المعاصر لكنه قليل بكل تأكيد. فالعالم غير مهتم بما ننتج من نقد أو فكر أو علم، بقدر ما هو مهتم بما ننتج من أدب وفنون بشكل عام. ولا أظن أن من الصعب التوصل من ذلك إلى أننا في الفكر والعلوم عالة على الآخرين أكثر مما نحن في الإبداع الأدبي والفني، فنحن هنا أقرب إلى ذواتنا واختلافها، وهو ما يبحث عنه العالم، وما ينبغي أن نبحث عنه من ثم إذا كنا ننشد الاختلاف المتميز والإسهام الحقيقي للإنسانية.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135» ثم أرسلها إلى الكود 82244