(1)
عموماً، الكتابة مرض. مَنْ يُبتلى به إنما يُؤسرُ في سجن قفصه الصدري.. لا قضاة يحاكمونه ولا محاكم تنصفه.. لكن الكتابة، كأي شيء آخر، تتحوَّل مع الوقت إلى مهنة أو حرفة يركن صاحبها إلى العادة والرتابة والأسلوبية التي يعتاد عليها.. ونادراً جداً هم الكتّاب الذين سعوا في تجربتهم إلى التجديد وتقديم المختلف دوماً. قد يكون التجديد والتغيير وابتكار أشكال جديدة في الشعر أمراً وارداً بكثرة، ذلك أن مطواعية النص الشعري وتعقيداته الروحية تحيله إلى نص مفتوح على فهم القارئ للتجديد.. ومدى قدرته على فك طلاسم الشعر أو على الذوبان في روحية الجملة. هذا على ما أعتقد قارئاً نادراً بكل اللغات. ما يُفسر لنا، بشكل أو بآخر، عزوف الناس عن قراءة الشعر واتجاههم نحو الرواية ذات الفضاء والنص المشرعين على العالم، على الحياة المعاشة بتفاصيلها كافة. الرواية بهذا المعنى هي الشرفة التي يطل الكاتب من خلالها على العالم ويطل من خلالها القارئ على عالم الروائي وعالم الشخصيات التي تتخللها، ما يجعل من الرواية عوالم محبوسة في أوراق.. أو مفتاحاً دونه أبواب كثيرة.
غير أن الانفتاح الذي ربما تشهده الرواية يجعل من الرواية عنصر جذب للكثيرين من الذين ابتلوا بمرض الكتابة. منهم من كتب نصاً بديعاً، لكنه، بقي مخزوناً في أروقة النخبة.. ومنهم من كتب نصاً بديعاً، ودغدغ غيرة بعض النخبة.. ومنهم من كتب نصاً متوسطاً لكنه شعبوي النزعة أحاله إلى انتشار جماهيري كبير، لكنه مع هذا بقي صاحب نص متواضع، لا يتحلى بشروط الكتابة الأدبية الصارمة التي حتى وإن طبقت في نص، فإنها لا تلغي قدرة هذا النص على استقطاب الجماهير.
في الرواية المنتشرة في المملكة منذ عقد ونيف، برزت أسماء كثيرة، منها من برق كثيراً، ومنها من بقي يعمل بصمت ودأب. يحفر نصوصه حفراً، كما لو أنه يعمل حجّاراً ينحت الأدب، كما نحت أسلافه جدرانهم الشاهقة بين مدائن صالح والبتراء. من هؤلاء، يلمع اسم عواض العصيمي كروائي مجتهد لم يسع خلف شيء سوى الكتابة. منذ مجموعته القصصيّة الأولى (ذات مرّة) برز العصيمي كنسّاج كلمات وقصص. بقي على هذا المنوال حتى الرواية الأخيرة (طيور الغسق) التي، ربما، لقيت أكثر من سابقاتها ترحيباً على المستوى الثقافي العربي يتبعه المحلي. قراءة العصيمي أو الشاهر كما يُعرف عنه بين حين وآخر، ليست قراءة سهلة، لا يكتب العصيمي نصاً سهلاً كما الغير. نصه وإن بدا قليل التعقيد إلا أنه الأكثر تعقيداً بين أقرانه ومجايليه. إذ إنه يكتب نصاً يذكّر بما درج على تسميته بالرواية الفرنسية الجديدة مع آلان روب غرييه ونتالي ساروت، الرواية التي أنهت عصر الرواية البلزاكية التي كانت تعطي انطباعاً للقارئ أنه يتجول في أمكنته المألوفة.. وتوسطت ما عرف فيما بعد بمرحلة ما بعد الحداثة. بهذا المعنى نجد أن نصوص الشاهر هي نصوصٌ مؤسسة لما ستشهده الرواية في المملكة العربية السعودية بعد زمن، بعد أن يفرز الوقت الغث من السمين والأدب من شبهه.
(2)
يكتب عواض جملة مغايرة لا تمارس الحمية اللغوية أو الريجيم. جملة لا تكترث بالرشاقة بوصفها واجهة للجسد بمعناه الحداثوي الكوزميتيكي.. بل جملة طويلة ومعقدة حتى لو كانت تتخللها النقاط والفواصل. بحسب متابعة قريبة من النص الروائي الذي ساد في المملكة، فإن الشاهر يكتب جملة ذهنية، حتى عملية إخراجها تُعتبر معقدة جداً وعسيرة وتحتاج الى جهد استثنائي. كافكا كان يكتب جملة ذهنية. كارلوس كاساجيموس الرسام الإسباني الذي قضى انتحاراً في العام 1901 في باريس التي جاءها رفقة بيكاسو، صديقه الحميم، كان يرسم لوحات ذهنية وحتى الأوراق القليلة التي لملموها من دفتر مذكراته، كانت تحوي جملاً ذهنية غاية في التعقيد. إزيدور لوسيان دوكاس الذي كتب أناشيد مالدورو كتب نصه الذهني الوحيد ومات بشكل غامض.. وبهذا أعتقد أن الشاهر لا يكتب رواية بقدر ما يُراكم جملاً فوق بعضها البعض تؤلف في النهاية رواية. تنسلُ جملُ الشاهر (روايته قنص نموذجاً) وراء بعضها البعض لتؤلف نسقها الخاص وتروي حكايتها، بصعوبة أحياناً، تظهر جلياً، سواء عند كتابتها أثناء خروجها في رحلتها الأبدية نحو حريتها أو عند قراءتها بعد استقرارها في كتاب عليه أن يستعرض نفسه أمام الملأ. أبقت هذه الخاصية التي تتميز بها كتابة الشاهر، أبقت كتابته خارج الإطار الجماهيري أو الشعبوي. خارج إطار حفلات التوقيع الزجلية التي عادة ما تميز كتابات بعض الكتّاب من أصحاب الانتشار الجماهيري العام.. لكنها بالمقابل خاصية، تحمي الأدب من المتطفلين. نسب القراء لا يمكنها أن تعطي النص شرعيته الأدبية. هذه الشرعية يأخذها النص من مكان آخر، حتى لو لم يقرأه أحد (في فرنسا كاتب حاز نوبل 2009 هو جان ماري غوستاف لوكليزيو. حتى نوبل بقيمتها الأدبية العالية وما تمنحه للأدب لم تحسن من نسبة مبيعات رواياته ولم تزدها. بقي لوكليزيو محافظاً على قرائه الذين يهوون قراءة الأدب) بهذا المعنى باولو كويلو لا يكتب الأدب حتى لو وصل حجم انتشاره الكوكب.
(3)
تبيّن نصوص الشاهر، أنها خرجت من مكان قصي وقديم. أغلب الظن، أنها جاءت من هناك على مراحل متعددة. أعود إلى الجملة الذهنية، لأقول إنها نصوص تشبه إلى حد بعيد المباني الباريسية القديمة. مبانٍ أخذت هندستها من عقل عثماني.. ثم طوال قرن ونصف وربما أكثر في بعض المباني، مر عليها سكان كثر كما مرت عليها حروب. جمل الشاهر المصفوفة وراء بعضها البعض كصف جنود صارم ومنضبط.
قالت لي السيدة باسلار التي دخلت في عقدها التاسع، حين سألت عن النافذة الصغيرة التي تتوسط جدار المرحاض وتطل على فراغ أسود. إن هذا السواد هو على الأرجح ما بقي من آثار الحريق الذي تعرض له المبنى في بداية الحرب العالمية الأولى، وإن أصحاب الشقة التي تعيش فيها منذ عقدين وسأعيش أنا فيها بعد شهر واحد، قد تركوا، بعد إعادة وضع حائط جديد يفصل المرحاض عن المطبخ. تركوا هذا الفراغ الأسود، الذي لا يمكن فهم السبب الحقيقي لبقائه، ليذكرهم بالحريق الذي أكل جثث أجدادهم هنا. كانت السيدة باسلار، تخبرني هذه القصة وهي تعتقد أني ما زلت معها.. بالحقيقة، أحالني ذلك الفراغ وقصته إلى رواية للشاهر لا أذكر منها سوى عنوانها (أكثر من صورة وعود كبريت) وهي من أكثر روايات الشاهر التي بقيت نخبوية دون أن تطالها شهرة.. أو حتى تسلط عليها أضواء النقد.
يكتب الشاهر رواية تشبه السواد الذي خلف الحائط في شقتي القادمة. رواية لا يمكن أن تعطي نفسها بسهولة. ليست شفافة كمياه الجداول، بل معكرة بما يكفي لكي يضطر من يقرأها إلى جهد كبير لفهمها وكشفها وتحليلها.. كما أنها، ستبقى بعيدة عن الشعبوية لأنها في صلب الأدب.
(4)
بعد وقت طويل، حين يجلس أحدهم على كرسيه الخشبي، ويعكفُ على قراءة ما كُتب بأقلام سعودية من روايات.. سيكتشف بين الغبار الذي يطمس سطوح الكتب اسم كاتب استثنائي هو عواض الشاهر، أو العصيمي، أو كما يريد هو.
simnassar@gmail.com
باريس