أحمد قنديل
130 صفحة من القطع المتوسط
شاعرنا القنديل قدم لنا ديوانه بهذا العنوان.. ذكرنا باصفرار الشفق.. وخريف العمر.. وذبول أوراق الشجر وقد غالبتها الصفرة.. لا ندري إلى أيها ينزع، ويعني.. لندع سويا السؤال.. ونلج إلى بوابة الإجابة من واقع شعره..
كانت إجابته سريعة وقاطعة في مقطوعته «أوراقي الصفراء».. لنتأملها منه:
أوراقك الصفراء ماذا بها؟
من سرك المكنون في صدرها؟
آليت أن اسمع في كهفها
أصداء عمر عاش في عمرها
وان أرى قلبك يا شاعري
في شعره الملفوف في شَعرها
العشق يشيخ ويصفر كما الأوراق الصفراء.. هذا ما عناه القنديل وهو يسترجع صدى عمر كان له عمر. هذا الورق الأصفر لشاعرنا ذكرني بقصيدة رائعة للمطربة الكبيرة فيروز يقول مطلعها: ورق الأصفر تحت الشبابيك فكرني بيك.
«الحبيب المسافر»
أمسافر يا نور عيني في الغد؟
لا! لا! فعلتها الآن دون تردد
ماذا عليك إذا بقيت بجانبي؟
فالقلب لا يهنا بقلب مفرد!
إني سألتك أن تكون كما أرى
وكما يراك الحب غير مقيد!
أنسيتها؟ لم تنسها فتانه
تلك الليالي عشتها بتودد
تساؤلات تنتظر الإجابة.. مشحونة بالصبابا.. والافتتان.. والتذكير:
فأجبتها إني سأبقى هاهنا
مهما يكن. فالحب غاية مقصدي
قالت، وقلت.. قول على قول بين حبيبين مليئان بالعاطفة.. خطابهما شعري شاعري عذب..
ينتهي إلى ما يشبه العذاب
قالت: لهوت من الأشعار ترسلها
نبضا من القلب أو وحيا من الصور
لقد عهدناك في دنيا الهوى رجلا
أنهى الحياة بدنيا الحب بلسمر
فأنت أنت الذي أهديتنا دررا
من شعرك الحلو فاقت غالي الدرر
ماذا بعد الشعر الحلو.. إنه لا يشبع ولا يغني من جوع دون عاطفة مشبوبة تذكي أوار الحب.. وتنضج ثمرته؟! لقد طال به صمت أقلق حواءه إلى درجة الخشية القاتلة.. انتظارها لم يطل.. جاء الجواب:
فقلت: يا حلوتي ما زلت شاعركم
رغم الأسى. والضنى والضر والضرر
يغفو المحبون أحيانا وقد لعبت
يد الزمان بهم.. عاشوا مع القهر
لكنهم لم يهنوا في محبتكم
فأنتمو فرحة المهجات والبصر
إني أردد ذكراكم عيش بها
من ذا يعيش بلا ذكرى مع العمر
فارقتكم جسدا.. والروح حائمة
تهفوا إليكم بلا أين بلا ضجر
كل هذا لم يشبع رغبة حبيبته.. لا يكفي الحب مجرد ذكريات يقتاتها وتقتاته.. إنها تطرح عليه سؤالا حازماً حاسماً هل من لقيا؟
ويجيبها بإجابة نعم ولكن في مهل.. وسيبقى أسير قيد قدره هكذا انتهى المشهد باعتراف الشاهد:
«وكان ما كان» عنوان جديد لتجربة شعرية جديدة:
رأيتها وعيون الناس تتب عها
مثل الفراشة إيماء وإطلالا
صبية كضياء الفجر باسمة
للفجر لليل مهما امتد أو طالا
تقول للأعين النشوى برؤيتها
إني هنا صورة للحسن أشكالا
لم يكتف بالرؤية الخاطفة وقد خطفت قلبه بل خاطبها:
فقلت يا حلوتي ما ذنب من وقفت
عليكِ عيناه إكباراً وإجلالاً؟
ومن يريدك للأيام يرسمها
شعراً، ووحياً وتخليدا وامتثالا؟!
ضحكت ثم قالت له معاتبة: «أحييت بقلبي أحلاما وآمالا»
هل أنت للشعر تهواني فقلت لها
وللغرام إذا ما هالنا هالا
صافحته بكف بطنة.. ثم ضحكت:
وقالت: اسمع فإني عشتُ في زمني
أهوى الهوى للهوى لا أعشق المالا
وكان ما كان حبا عاش منطلقا
للحب. لم يعرف الأيام املالا
بهذا الحب الشعري الشاعري انتهت القصة.
هذه المرة يسأل «أين؟»
أين الفراشات حامت حولنا زمنا؟
ورفرفت. واستقرت حيث تلقانا؟
ما بين سمراء ألهاها الصبا ولها
بفتتنة الحس بالإدلال حيانا!
وبين شقراء أغرتها مفاتنها
فجابهتنا فتنا وافتانا!
شاعرنا نبش حياة يومه وراح يسألها أين هي الكواعب، والأحباب، والأخدان، والخلان، وأشياء دارت في رأسه:
يا صاحبي في الهوى كنابه وله
أهل الهوى يتحاشى السر إعلانا
شاعرنا متيم بالعشق إلى درجة التخمة إن كان للحب تخمة.. فمن حبيبه المسافر إلى تلك التي قالت له وقال لها. إلى ذكريات وكان ما كان إلى أين مع فراشات السمراء والشقراء إلى «عاشق»:
علمني الشعر عيناها تباهت بالحور
وسقتني الحب دنياها كؤوسا من زهر
فأرتني الليل فجراً.. والأماسي قمر
فعشقت الحب والشعر وأحببت البشر
مقطوعة غزلية طويلة أجتزئ بعض مقاطع منها:
إنها الحب الذي أحيا به مهما خطر
عاشقا.. بالحب لم يكفر فبالحب مهر
إنها في القلب كالماء بأعماق الشجر
أو كنار المصطلي بالنار يصيب الشرر
أيها العاشق لاقي ما لقينا واصطبر
نحن كنا آية في الحب تتلى في حذر
إنما اليوم غدونا مثلما شاء القدر
قصة تروى بأوتار وتتلى في سور
هكذا أحلام العاشقين ما ان تحلق في الهواء حتى يجتذبها الهوى إليه من جديد.. وبنفس جديد إلا أنه لا يغير من الصورة شيئاً..
هذه المرة اختار الفراشة عنوانا لشعره:
جاءت تعابثني في الفجر زاهية
فراشة كالسنا كالفجر من عمري
رفرافة في الحقول الخضر ضائعة
نهب الهوى ضاع بين الغصن والثمر
فراشة شاعرنا ناطقة.. لا تطير.. عيون حبها ساهرة تخترق الشبابيك الخضراء وقت السحر.. تكتشف الأشياء. تحصيها كما لو أنها مأمورة ضرائب.. ضريبتها تكمن في سؤالها: هل انه يحب فراشته التي اقتحمت سكينته وسكنه، أجابها:
إني أحبك روح الحب نادرة
فوق العطايا جزيلا سامق الوطر
«قالت تحاورني».. وما سكتت منذ البداية عن حوارها معه، وحواره معها دون إجهاد ولا ملل..!
قالت تحاورني في الحبو عابسة
بالوجه، ضاحكة بالعين في نهم
إني اعيذك من قول يسطره
من لم يذقه كما ذقناه من قِدم
إن الشباب الذي تجري عواطفه
بما تراه أسير الجسم والظلم
فقلت: لم يعد المجنون لي مثلا
وليست اليوم ليلى قمة القمم
حسبي، وحسبك دنيا الحب راقصة
في موكب الشعر لم تهدأ ولم تنم
هذا هو الشاعر أحمد قنديل.. المتيم الذي يأخذه شعره يمنة ويسرة.. فما أن يأوي إلى عشق حتى يهرع منه إلى خيمة، وما ان يستقر في خيمة حتى يرحل منها إلى قصر.. إنه لا يطيق صبرا على خيال واحد.. وعلى تجربة واحدة.. وعلى أكثر من حوار هو نفسه تقرؤه بين ثنايا شعره في معظم محطاته..
شاعرنا القنديل أشاع قناديل حبه على مساحة دربه أعادها واستعادها في تكرار لذيذ لا يخل ولا يمل
أسوة بمقولة الشاعر:
قالوا المكرر فيه
قلت المكرر أحلى
لقد وجد فيها نفسه ومتنفسه.. وهكذا ينزع الشعراء ساعة صبوة عطشى لا يطفئ أنوارها ولا يخمد نارها إلا اجترار ما تتعطش إليه نفسه:
هاتي، أعيدي دعينا في صبابتنا
نستنزف الحب وصلا غير منغصم
أما معشوقته استرجعت وأطالت في استرجاعها غير حافلة بما يقال لأنه عطاء دون قلبها:
هذا هو الحب مهما عابر وجل
أو جاهل انه دنيا بلا ندم
هكذا تقول وفق قناعتها..
هذه المرة مع جارته الحسناء وهي تبث إليه أشواقها:
وقالت جارتي الحسناء
لما أن تقابلته
ودبَّ الحب ألحاظا
بها قلنا الذي قلنا
وجاءت كالرشا تخطو
وكالعصفور إلا حنا
وكالبلبل إن غنى، وكبيت الشعر: وكإطلالة السحر.. وإشراقة شمس النهار.. لغة حبهما تتسع لكل التوصيف والتوظيف للمفردات الشاعرة.. إنها متاحة بلا ثمن.. ومشاعة بلا تقشف ولا تقنين..
فقل للجاهل الواشي
ألا فلتحسن الظنا
لقد مالت هنا وجرت
هناك تردد اللحن
كمثل فراشة طافت
بروض رائق المغنى
إنها أشبه بعروسة شعر لا هم لها إلا أن تغني.. ذلك هو عشقها..
نتجاوز بعض محطات شاعرنا «هل رأيتها؟». «قالت الحلوة». «الحسناء والمفازة». «وردة بلا ربيع» وكلها تصب في نفس المجرى.. حوار.. ودوار رأس لكثرة المنادات والمناجات..
أخيراً مع مقطوعته الختامية «سونا»
الليل أوشك أن يذوب كشمعة ذابت أمامي
والفجر حاول أن يطل من النوافذ في اقتحام
متلثما بالنور. تاه بنوره - حلو اللثام
كل هذا مدخل لما بعده:
وأنا بغرفتنا التي شهدت غرامكِ يا غرامي
سهمان اجتر الصبابة باكيا، والقلب دامي
نهب الهوى، والذكريات مواكب عملت حطامي
حب.. فنهب.. فذكريات آلت إلى حطام.. عشق لا تبشر بخير
سونا.. وأنتِ حكاية الأيام عاما بعد عام
ما أنتِ إلا طفلة بين الذياب بغير حامي
وينتهي به الشعر إلى الفاقة بعد أن اكتشف ما اكتشف:
سونا. لقد أهملت بعدك كل أحلامي الجسام
ما عدت أقرأ أو أسطر أو أذاكر في اهتمام
ولقد هجرت الناس والعادات منقلب الزمام
شاعرنا أعلن صيامه عن كل شيء إلا أن يقف محاميا للدفاع عنها:
ولقد يسرّك أن تريني الآن في ثواب المحامي
كي يترافع عنها.. ويدافع عنها التهمة لعلها بريئة.. هنا تنتهي الجولة مع شاعرنا المجيد الراحل «أحمد قنديل».. «شاعر العشق».
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 ـ فاكس 2053338