الثقافية - بندر خليل
يعد الباحث والمؤرخ علي آل قطب من أبرز الأسماء الشابة والصاعدة في المشهد الثقافي بمنطقة عسير. وحين صدر كتابه الأول «الأمراء اليزيديون» حول تاريخ عسير، قبل معرض الرياض الدولي الأخير للكتاب، حقق مبيعات كبيرة جعلته ضمن قائمة الأكثر بيعا في المعرض، وفي دار النشر «طوى». وفي هذا الحوار حاولت «الثقافية» تقديمه للجمهور في أول ظهور صحفي له.
متى بدأت الاشتغال العلمي بتاريخ عسير، وما الذي شدك في البداية إلى خوض غمار هذا الباب المعرفي إجمالا؟
بدأتُ قراءة تاريخ عسير منذ الصغر، وكانت البداية الأولى على صورة هاوٍ لهذا التاريخ، وأحسبُ أن القصص التاريخي الذي كان يرويه جدي الذي لم يزل حياً ينيف على المائة عام عن كامل أشكال الحياة القديمة في عسير بما فيها من أشعار، ومرويات، وأساطير، وموروثات، ورموز، وشخصيات قد انغرست في ذاكرتي بشكل ربما لا يكون واعياً في حينه!.
يعرف عن التأريخ تصنيفه إلى نوعين، كبير وصغير، أحدهما يشمل تاريخ الأمة بكل حمولاتها الحضارية والثقافية، فيما ينشتغل التاريخ الصغير بالنخب، وتفاصيل صراعاتهم السياسية، أو ببلاط القصور كما قيل كثيرا في كتب فلسفة التاريخ، أين تضع كتابك من هذين النوعين؟
لكتابة التاريخ مدارس شتى، وطرائق مختلفة، فضلاً عن أن موضوعاته وحقوله متعددة الجوانب، وتناولها يكاد يكون متعذراً في هذا الصدد، غير أن كتابي وإن كان يبدو متخصصاً في حقل التاريخ السياسي إلا أنه ناقش العديد من الإشكالات المتعلقة بالكتابة التاريخية عن عسير. فقد تناول الأنساب، وقدم مقاربة عن الفكر الديني والحركة العلمية والثقافية في عسير خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، عطفاً على أنه حاول إعادة كتابة تاريخ عسير من خلال الكشف عن بعض الرموز التاريخية ووضعها في سياقها التاريخي الصحيح بشكل ينسجم مع ما قبلها وما بعدها. كما أن المدقّق في هذا الكتاب سيجد أن ثمة عدد من المفاهيم التي تم تطبيقها في تحليل بعض الوقائع التاريخية مثل القطيعة المعرفية بمعناها الفوكوي، والتحدي والاستجابة لتوينبي علاوة على أن الكتاب حوى مضموناً نقدياً عاماً في محاولة لترميم الأخطاء المعرفية والمنهجية أو لتصحيح بعض الآراء المدفوعة أيديولوجياً والمرهونة بضغوط الواقع الراهن والتي وقع فيها بعض المؤرخين والباحثين!
يغيب المؤرخ في المجتمعات العربية، وينحسر دوره في الصراعات والجدليات التاريخية ولا يذهب غالبا إلى الاستقصاء، والكشف، والتحليل، وقراءة ما وراء أحداث التاريخ ونقاط التحول التي تمتد بامتداده على مر العصور.. ما سبب هذا الغياب، وأعني هنا غياب المؤرخ الذي يفلسف التاريخ ولا يعيد سرده على طريقته التي يحب. أو التي تمليها ظروف الزمان والمكان.
غياب المؤرخ الفيلسوف يرجع أولاً إلى تواري الفلسفة أصلاً في الثقافة العربية والإسلامية والتي يرجع تواريها إلى أحداث تاريخية حدّت من نفوذها في القرون الإسلامية الوسيطة لأسباب أيديولوجية وسياسية حيث تم تجريمها ومقاطعة رموزها، وتحريم نتاجها. النظر إلى التاريخ يحتاج إلى عقل ناقد متفلسف، والنقد والتفلسف لا يتواجدان إلا حين تتواجد الحرية كشرط رئيسي وأولي لهما. المؤرخ في مجتمعنا وفي كثير من الأحيان لا يقرّر إلا ما قرره واقعه، لكونه ينشأ ضمن هذا الواقع المحدد معرفياً وثقافياً والذي لا يمكن الخروج عنه إلا في النادر. المؤرخ في مجتمعنا لا يطرق القضايا المسكوت عنها، أو القضايا اللامفكر فيها، وإذا طرقها فلا شك أن هذا المؤرخ يصبح استثنائياً ومبتكراً.
كيف وجدت مصادرك في كتابة هذه المرحلة من تاريخ عسير؟
هناك شح كبير في الكتابة التاريخية عن عسير، وقد حاولت تقديم تفسير يتعلق بهذا الشح، والذي يكمن في أن عسير تعرضت لقطيعة معرفية كاملة في القرن الثالث عشر الهجري حيث بدا هذا القرن وكأنه نهاية لمرحلة تاريخية وبداية لمرحلة تاريخية أخرى تخضع لنظام معرفي وديني وقيمي جديد !. من هنا فإن كل المصادر الموجودة الحالية التي أمكن الإطلاع عليها تبدأ دوماً من القرن الثالث عشر، ولهذا فإن الباحثين يجدون عقبة كأداء فيما يتعلق بدراسة منطقة عسير قبل هذا التاريخ ! ومن هنا كان منشأ تعدد المقاربات التي قدموها تجاه تلك الفترة أما فيما يتعلق بتاريخ عسير منذ القرن الثالث عشر فثمة العديد من المصادر المنوعة والتي يمكن الحصول من خلالها على مادة علمية لا بأس بها في تاريخ عسير، وهي الوثائق المحلية منها والأجنبية والمخطوطات وكتب الرحلات، علاوة على المراجع والدراسات التاريخية المتخصصة، فضلاً عن الروايات الشفهية. تاريخ عسير يعاني مشكلة إضافية بالنسبة إلى المصادر وهي تكمن في إصدارات كانت محل شك من حيث نسبتها إلى مؤلفيها، ومن حيث إنتاجها لخطاب ينطوي على مادة تاريخية مخالفة للمادة التاريخية التي يقدمها خطاب آخر يبدو أكثر تماهياً وانسجاماً مع الواقع الراهن.
ليس لكتب التاريخ حظوة الكتب الأخرى في معارض الكتاب العربية، وفي العادة تتصدر الروايات وكتب التابو مبيعات المعارض، لماذا جاء كتابك ضمن الكتب الأكثر مبيعا في معرض الرياض الدولي للكتاب والذي اختتم مؤخرا، وقد علمت «الثقافية» أن كتابك قوبل بطلب قوي في دار طوى للإعلام والنشر! رغم أنها تعج بالكتب الجماهيرية وكتب المؤلفين النجوم! ما هو تفسيرك لهذا الرواج، الذي يعد في اعتبارات الناشرين نجاحا فائقا؟؟
ثمة ولع كبير لمعرفة تاريخ عسير من قبل أبنائه، كما أن كثيراً من أبناء الوطن حريصون على معرفة هذا التاريخ المغلف بطابع الخفاء والأسطورة !. رموزه، وحواضره، وأحداثه، ومجالات الحياة العامة فيه، كلها ليست واضحة بشكل جلي. هناك أيضاً رؤى مختلفة حيال هذا التاريخ، وتضارب كبير حيال العديد من قضاياه، ومن ثم فإن كتاب (الأمراء اليزيديون) والانكباب على شرائه يبدو أنه بمثابة الحل السحري لتجلية ذلك الغموض، وحسم التضارب المدون تجاه العديد من الإشكالات والقضايا في هذا التاريخ. من الجدير ذكره أن هذا الكتاب قد لا يكون جديراً بهذا الرهان ! فأنا لا أملك الحكم عليه، غير أن ما أملكه من يقين هو أن التهافت على شراء هذا الكتاب ربما لا يعكس جودة الكتاب بقدر ما يعكس عطش القارئ حيال هذا التاريخ !، وإني لأرجو أن يجد القارئ في هذا الكتاب ما يروي عطشه !.
كيف ترى حالة التلقي العامة من القراء في الداخل لهذا النوع من المواد، أو النتاج العلمي والثقافي؟ وهل تختلف كثيرا عن حالة المؤرخ؟ بمعنى هل تلقي الدراسات والبحوث التاريخية لحقب زمنية حديثة أو قديمة، بطريقة خاطئة، كأن يكون فهم التاريخ على نحو جاهلي يوقظ الفتن الجاهلية كالعنصرية، والنعرات، وتمجيد الأشخاص، ونسف الآخرين! هل هذا حاصل في كتابته أيضا؟ وكيف ترى نسبة الوقوع في هذه الأخطاء لدى الجانبين، المؤرخ، والمتلقي.
المؤرخ هو في الأصل متلق، وربما لا يختلف كثيراً عن المتلقين أو على الأقل ربما تكون أهداف المؤرخ الخفية هي عينها أهداف المتلقي ولكن بشكل يمكن أن يدركه هو دون أن يدركه المتلقي نفسه !. لعل من أهم المشكلات التي تعاني منها الكتابة التاريخية وقوعها ضمن إطار قبلي أو ربما أيديولوجي , الخلفية القبلية أو الخلفية الأيديولوجية تجعل الكتابة التاريخية حتماً منحازة، تفتقر إلى الموضوعية. هاتان الخلفيتان تجعل من المؤرخ حكماً لتدنيس وقائع وظواهر معينة، وتقديس وقائع وظواهر معينة أخرى!. والحال أن مهمة المؤرخ ليس أن يكون قاضياً بقدر ما يكون مقارباً للواقع التاريخي كما هو، فالأحكام في النهاية ليس للمؤرخ وإنما للمتلقي !.
كتبت في مقامات عدة، وتحدثت في مناسبات مختلفة عن أزمة ثقافية يعيشها المجتمع العسيري؟ حدثنا عن هذه القضية، أو الأزمة، أسبابها، وكيف تكونت ونشأت.
المجتمع في عسير يعاني من أزمة ثقافية كبيرة، إذ هو يعاني من إشكال يتعلق بهويته، وتاريخه، والعديد من المفردات الثقافية التي وعى نفسه من خلالها. هو في خصام سيكولوجي حاد نتيجة لوقائع تاريخية عصفت به ! ذلك أن المجتمع في عسير وبعد أن اكتسح الخطاب السلفي المجال الديني لديه، بعد عقود من تكريس ذلك الخطاب فقد تمت محاكمة تاريخه، وهويته التي كانت متسامحة جداً بمقتضى هذا الخطاب عبر اعتباره معياراً أو حَكَماً على الهوية والتاريخ في عسير. من هنا فقد أصبح عديد المفردات من تلك الهوية مسنودة إلى الجهل، والزيغ، كما أمسى التاريخ محكوماً عليه بهذه المعيارية الصارمة حيث أصبح تاريخاً مظلماً ومدنساً!.
ما رأيك في كتاب إمتاع السامر، ذو الصيت الواسع في أوساط المهتمين بتاريخ المنطقة، وتحديدا فيما أثاره من جدل تاريخي، انتهى إلى إحالته لقائمة الكتب المزورة بعد أن تصدت دارة الملك عبدالعزيز، لتحقيقه، والرد على ما فيه؟
لقي كتاب إمتاع السامر لغطاً كبيراً من قبل الباحثين والمهتمين بالشأن التاريخي في عسير والجزيرة العربية عموماً. وقد جاء هذا اللغط مترتباً على كيفية طباعة هذا الكتاب وإصداره، ونسبته إلى شعيب بن عبد الحميد الدوسري الذي رأى بعض الباحثين أنه من غير الممكن أن يكون هذا الكتاب هو من نتاج هذه الشخصية لكونها لم تكن معروفة بالبحث التاريخي، ولكون إصدار هذا الكتاب جاء بعد وفاة هذه الشخصية.
يضاف إلى ذلك أن المادة التاريخية المعروضة في الكتاب والتي شملت الكثير من المعلومات في الأنساب، والجغرافيا، والتاريخ، والقصائد الشعرية فضلاً عن احتوائه على العديد من التراجم لشخصيات سياسية ودينية واجتماعية كانت تتسم في أحيان بالتفرد وربما بالاختلاف مع المصادر التاريخية الأخرى. من هنا فقد كان هذا الكتاب بما حواه من مادة تاريخية مثيراً جداً للباحثين، كما أن بعض المؤرخين في قراءاته وتحقيقاته التاريخية قد استند عليه، منهم علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر يرحمه الله في كتابه جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد. ولإثارة هذا الكتاب فقد ارتأت دارة الملك عبد العزيز تحقيق هذا الكتاب والتعليق عليه، وهذا التحقيق زاد الكتاب إثارة باعتبار أن تحقيقه والتعليق عليه لم يكن رصيناً وموضوعياً، بل كان في عمومه انطباعياً ومنحازاً إلى القراءة الرسمية للواقع التاريخي في الجزيرة العربية. وهكذا فالكتاب في مادته التاريخية وقراءته ليس خرافياً برمته كما أنه ليس صحيحاً برمته، غير أن ما يهمني في هذا الصدد التأكيد على أن التعامل معه ومع أي مصدر آخر ينبغي أن يكون في إطار علمي جاد!.
هل لديك مشاريع تأريخية قادمة؟ بمعنى هل سيكون كتابك هذا بداية لسلسلة من الكتب حول تاريخ عسير؟ أم إنه مشروعك الوحيد في هذا الباب؟
ثمة العديد من المشاريع البحثية المتعددة التي أطمح إلى تقديمها، ربما لا تكون متخصصة في تاريخ عسير، ولكنها حتماً ستكون مشتغلة بتاريخ الأفكار، وبالنقد والمساءلة لوقائع اجتماعية، وأنماط ثقافية معينة. أما ما يتعلق بتاريخ عسير فهو ربما يكون بحاجة إلى باحثين يشتغلون بمجاله الاجتماعي، وتغيراته الثقافية التي حدثت له خلال المائة عام المنصرمة وكشف واقعها السياسي والثقافي والاجتماعي.