المستوى الثاني من توصيفات الجنون:
في هذا المستوى الثاني يُوصف الجنون؛ بأنه:
- «اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادراً».
- «ذهاب العقل لآفة، ومظهره جريان التصرفات القولية والفعلية على غير نهج العقلاء».
- «اختلاط العقل بحيث يمنع وقوع الأفعال والأقوال على النهج المستقيم إلا نادراً».
فهذه التعريفات تُصنّف الجنون؛ بأنّه: آفة، واختلال، واختلاط: يغيّب العقل - يمنع العقل - يذهب به.. وبما أن العقل كما أسلفنا نظام، فإن الجنون مانعٌ من استقامة التصرفات على ذلك النظام - النهج القويم = المسلّم به.
والعقل نهج واحد - كما تذكر التوصيفات - يجمع عليه المجتمع؛ لأنه اختيار ثابت ومحكم ومتطابق؛ قرين للحق «لدورانه على استقامة» - كما يقول الراغب الأصفهاني - والجنون متعدد ومبهرج كالباطل؛ فـ» إن الحق واحد، والباطل كثير بل الحق بالإضافة إلى الباطل كالنقطة بالإضافة إلى سائر أجزاء الدائرة وكالمرمى من الهدف».. وهي صورة تكشف عن العلاقة بين الجنون والعقل، وبين الهامش والمتن، والبؤرة والمجال.. وتبيّن نسبة أحدهما للآخر؛ فالعلاقة بينهما علاقة النقطة بالدّائرة، والمرمى بالهدف!
لكنَّ هذه العلاقة لا تأتي من زاوية النسبية والاختيار - كما تظهر للمتأمّل - بل تأتي منحازة من خلال أداة «الإكراه» الخطابي، وامتلاك «الحقيقة» المعرفية والأخلاقية، لذلك ترتبط بالحق والباطل كجهاز قيمي أخلاقي ومعرفي؛ ومن ثم فليس كل الدائرة تصلح أن تكون موقعًا للنقطة، ولا كل الهدف يصلح أن يكون محلاًّ للمرمى.. وكل ما في الأمر أن الانحياز وقع إلى اختيار موضع النقطة؛ كما كان الانحياز إلى اختيار موقع المرمى من الهدف، وبذلك لا تكون العلاقة هنا هي علاقة الممكن بالمتحقق، والخيارات الثقافية الواسعة والمتعددة بالانحياز الضيق والمحدود. بل على عكس ذلك هي علاقة محدّدة ومعيَّنة، ومن ثم فهي ليست ملكًا للتجربة الفرديّة، ولا للحظة الزمنيّة؛ بل هي (أي: العلاقة) ملك للجماعة التي تملك حق الاختيار، وتعطي الأشياء قيمتها، ولذلك كان مجنونًا كل: «من لم يستقم كلامه وأفعاله»، على «نهج العقلاء» في أقوالهم وأفعالهم، بغض النظر عن حقيقة هذه التصرفات أو قيمتها الموضوعية (= الحقيقة والواقع كما هو، أو كما يبدو بمعزل عن أحكام الإنسان وأفكاره ومشاعره).
للعقل نهجٌ، أي: طريق مسلوك بيّن محفوظ متوقّع؛ يخالفه الجنون وينحرف عنه. وكأن الجنون بهذا لا حقيقة له في ذاته، ولكن حقيقته تأتي من خارجه، أي من مخالفته لعالم العقلاء وأفعالهم، وأنه يحتكم في ذلك لما وضح واشتهر من الخبرة والتجربة؛ فـ «النهج»؛ بما هو: طريق عامر، مذلل واضح، لا يكون إلا بكثرة الطَّرْق، واعتياد الارتياد، وبذلك يكون الوضوح، ويتحقق الإشهار.. ويقصد به: الوجه الواضح الذي جرت عليه ممارسة الناس، وفي هذا الفهم: تقريرٌ للتعريفين السابقين في المستوى الأول، حيث قدما الجنون بصفته عَرَضًا، و»العرض: ما لا يقوم بذاته بل بغيره».
والتعريفات جميعها في الحزمة تحتكم في تحديد الجنون والحكم به إلى معيار واحد، وهو بحسب ما تنص عليه: نهج العقل - نهج العقلاء، لأنه النهج المستقيم - كما وصفه المناوي - فتحديد الاستقامة: الصواب - الخطأ، والفضيلة - الرذيلة، والمقبول - المستهجن، من اختصاصات العقل؛ فلا معنى للاستقامة إلا به.. و»كل أمر لا يحضره العقل يظهر فيه الخطأ والزلل» على حد قول أسامة بن منقذ.. ومن ثَمَّ وصف الجنون بأنه «اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب بأن تظهر آثارها وتتعطل أفعالها، إما لنقصان جبل عليه دماغه [المريض بالجنون] في أصل الخلقة، وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال بسبب خلط وآفة، وإما لاستيلاء الشيطان عليه، وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه، بحيث يفرح ويفزع من غير ما يصلح سببًا».
والتعبير بنهج العقلاء أو نهج العقل يقتضي الاعتراف نظريًّا بـ: وجود أكثر من نهج، وأن المعيار المعتمد هو النهج (المختار) المذلل المعروف (= الطريقة المشتهرة - السائدة)، فهو يحصر العقل في نهج واحد وطريقة واحدة، هي الطريقة السائدة والمستمرأة، ويضبطها كثرة الطرق المستلزم للوضوح والظهور، وليس للجنون حقيقة ثابتة بل يتمثّل في مخالفة ذلك النهج بكيفيات غير محددة ولا معتادة. وهذا يعني أن العقل يتمثّل في: المُشاهد والواضح والممارس (الظاهر - المشهور - السائد)، والجنون يأتي من كونه نزوعًا إلى غير الواضح، وغير الظاهر، وغير الثابت وغير المطروق (الخفي - المغاير)، ما يجعل من تحديد هويته بالرجوع إليه في ذاته غير مجدٍ.. وهذا يدل على أن الجنون يتحدد من خلال التجربة الاجتماعية والثقافية، أو بلغة أكثر تعقيدًا من خلال سياقات السلطة الفاعلة في المجتمع والثقافة خلال مرحلة - مراحل من التاريخ، التي تسعى لتعميم النماذج وتحقيق الانسجام والتشابه؛ لأنه لا يوجد موقع آخر يملك الحق في الحديث عن الجنون ووصفه.. وهنا يتأكد مرة ثانية مسألة أسبقية «العقل» على تجربة الجنون، وامتلاكه الحق في دفع الوجود المختلف إلى الجنون.. ولذلك يأتي تعريف الجنون - هنا في هذه التعريفات جميعًا - من الثابت فيه، وهو: «مخالفته» السائد.
(يتبع)
أبها