إن تفاوت حجم السلطة الأبوية في بيوتنا وتفاوت قبضتها يثبت أصالتها ولا ينفيها، فلا فرق فعلياً بين أب حانٍ وعطوف وآخر مستبد في قانون وطن يُحكّم الأب في كل شؤون الأبناء، وفي قضاء يجوز قتلهم بتهمة عاق! إن تصوير عقوق الأبناء بأشكاله الجنونية يعطي دلالات مخيفة عن مدى حقيقة الفكرة، فكرة تملك الأبوين لأبنائهما، تملك الإنسان لإنسان آخر. لقد تحول مفهوم البر بالوالدين من مفهوم أخلاقي جميل، يحث على حسن الرفقة للأب وللأم، إلى مفهوم سلطوي تخويفي، يزعزع الأمان النفسي للأبناء. لقد أصبح مفهوم العقوق وصمة عار وشهادة قضائية تهدد رقاب الأبناء. الخطاب التربوي والديني الذي يخوف الابن من الاختلاف مع والده في طريقة حياته وأسلوب معيشته هو خطاب ترهيبي، يخلق حالة من الفصام النفسي لدى الأبناء. الصراع بين رغبات الذات الطبيعية مثل اختيار نوع العمل أو الدراسة، طريقة الزواج، الاتجاه الفكري، أسلوب الحياة وغيرها مما يميز بين فرد وآخر، هي رغبات مصادرة من الإنسان السعودي باسم البر بالوالدين. البر الذي لا يترك للابن أي مساحة خاصة وشخصية هو ليس مفهوماً أخلاقياً بل سلطة أبوية تقليدية ومتعصبة، لا تعترف بالفرد بل بالقبيلة. البر بمفهوم السلطة الأبوية لا يعترف بالأسرة محضن الأبناء ومرباهم، بل بالأسرة القبيلة التي تحكم الابن باسمها وبسوطها وسلالتها، تحكم إيمانه وتفكيره وسلوكه. البر الذي حض عليه نبي الإسلام كان حسن رفقة الوالدين، أي حسن المصاحبة، هذا الوعظ الذي يصوّر العلاقة بين الأب وابنه بعلاقة الأصحاب تحول اليوم على ألسن الوعاظ والتربويين إلى علاقة استعباد وملكية. قضية رائف بدوي التي تدور في القضاء بتهمة العقوق خير مثال هنا، القضاء الذي يهدد بقطع رقبة الابن إذا ما صاح أب بأن ابنه قد عقه، القضاء الذي يبادر بحبس سيدة أربعينية مثل سمر بدوي دون تهمة سوى أن أباها يجدها عاقة، بينما العالم يجدها أشجع نساء الأرض. البر الذي يصور دار المسنين كجهنم دنيوية بدلاً من مؤسسة اجتماعية مدنية تحقق لكبار السن مجتمعاً صحياً إيجابياً، يتوافق مع نفسياتهم وأمزجتهم، هو البر الذي يثقل كاهل الأبناء ويفاقم أزماتهم، ويضعهم على خط المرض النفسي أو الجريمة. الشرط على الأبناء برعاية أب متسلط ومستبد، أمضى عمره في ضرب أبنائه، ولم يكف أذاه رغم تقدم العمر، هذا الشرط الذي يجيء كحث ووعظ أشبه بالإلزام، ويشكل عدم امتثاله خروجاً عن الطاعة الربانية وشذوذاً اجتماعياً ووصمة عار، هو الشرط الذي يضع الأبناء في مأزق نفسي لا يمكن معادلته، مأزق يصل إلى تلك الأنواع الصعبة من جرائم الأسرة، لماذا يجبر الأبناء على تحمل سلطوية وبذاءة أب أو شراسته، على تحمل مكيدة أم ودسائسها في الفتنة! البر صحبة بالمعروف، امتنان نفسي، رد جميل بدافع أخلاقي، لا شيء أكثر من ذلك، لا يجب أن يكون أكثر من ذلك مطلباً فكيف يصبح واجباً، بل قد أصبح اليوم في بيوتنا حداً جديداً من حدود الله!! لم يعرفه التاريخ الإسلامي قبلنا ولا يعرفه على هذه الأرض أحدٌ معنا.
lamia.swm@gmail.com
الرياض