بعد اختتام مؤتمر الأدباء الثالث تعالت الأصوات المنتقدة تتذمر كعادتها من هذا النقص وتلك السلبية، لكن الخطأ الذي أجمع المنتقدون أنه أعاب المؤتمر هو التخبط الذي سببه مُسمّاه، فورود كلمة (الأدباء) في عنوانه أوحى بأن الشأن الرئيس لهذا المؤتمر هو الأدباء. يقول المعترضون وقد خاب أملهم إن ذلك الحدث الثقافي كان خاصاً بالأدب وليس بالأدباء السعوديين ولم يلامس همومهم وشجونهم.

وفي اعتقادي الشخصي، إن كانت وزارة الثقافة قد عوّلت على إدراك القادمين إلى هذا الحدث الثقافي الكبير ما تعنيه كلمة ( مؤتمر )، فهذا شطط منها ومبالغة لا تُحْتمل، فالمعنى الأقرب للأذهان لا يخص ماهية الحدث، بل لمن يتوجّه الحدث، وفي هذه الحالة الحدث يخص الأدباء وهو موجّه لهم. ولقد أساء التقدير منظمو المؤتمر مرة أخرى حين اعتمدوا على إعلانهم محور المؤتمر الرئيس، (الأدب السعودي: قضايا وتيارات)، وحين فصّلوا محاوره الفرعية: من مثل، الأدب والانتماء الوطني، الأدب وثقافة التسامح، الدراسات النقدية، الإبداع الإليكتروني. كيف يمكن لهذه العناوين المعلنة من قبل انعقاد المؤتمر بستة أشهر أن توحي بأن الحدث سيركز على قضايا الأدب وليس على شؤون الأدباء؟ لا يستطيع أحد أن ينكر أن الاحتمال الأكبر هو أن يهتم المؤتمر، تحت هذه العناوين، بشجون أصحاب الاسم، معشر الأدباء.

وقد لا يروق المنطقيون هذا الانتقاد التذمري، فالعقل يقول إن مسمى ( أدباء) مرتبط ارتباطاً وثيقاً بكلمة أدب، والأدباء الذين اشتقوا اسمهم من هذا المسمى هم من ينتمون إلى الأدب انتماء المهتم والمحب والمنشغل والمسكون بقضاياه. لكن هذا العقل مُجحف في الحقيقة، والمسمى واضح كالشمس، فكلمة أدباء تعني أشخاصا وليس مواضيع، الأدباء أفراد، أيها العقل المُجحف، لم يريدوا من التوافد على الرياض بتلك الأعداد وذلك الإقبال الحماسي إلا أن يجتمعوا مع بعضهم البعض لمناقشة أوضاعهم الثقافية والاجتماعية. لقد قدم المتأدبون من أنحاء المملكة وكلهم أمل أن يستفيض المؤتمر - على مدى ثلاثة أيام من التباحث- في عرض المطالب وتمحيصها، وتفكيك أحوال الأدباء وتأزمهم وتشريح ما يشغل بالهم ويؤرق مضاجعهم. وكان الأمل المرتقب أن جلسات مكثفة ومطولة على مدى ثلاثة أيام ستتمخض بالضرورة عن حلول جذرية يتم بها تقديم العون لأفراد الأدب من خلال رابطة وصندوق يحسّنان أوضاعهم ويرعيا مواهبهم ويعملا على ترويج إصداراتهم وتحفيزهم بالجوائز والتكريم.

وإن كان العقل المُجحف إياه قد تعجّب من اكتظاظ الفنادق بأعداد هؤلاء الأفراد في حين خلت القاعات إلا من قلة منهم، فها هو التفسير الذي يدحض كل حجة: إذ كيف يتوقع منهم أحد المواظبة على حضور الجلسات وقد تبين لهم – دون حضور– أنها ذات " صيغة مدرسية بحتة "؟ لقد كان الأدباء يعانون من "صدمة " قوية طيّرت النوم من أعينهم طوال الليل وألزمتهم غرفهم طوال النهار، فهم قد راعهم " البون الشاسع بين مسمى المؤتمر وبين برامجه المدرسية"، كما "أرهقتهم بحوث المشاركين" المتخصصة في الأدب بطابعها الأكاديمي. معذورون كل هؤلاء الأدباء الذين وقعوا في شراك مسمى خادع لوّح لهم باستهداف القضايا الأساسية التي يطمحون لها، لكنه فاجأهم ببحوث أكاديمية " مكانها الطبيعي ليس بالقطع هذا المؤتمر " الذي يحمل اسمهم. ما شأن " معشر الأدباء" بالأدب؟ أما كان الأجدر تسمية المؤتمر ب ( الأدب السعودي ) حتى يستبين الأمر ويبقى هؤلاء في ديارهم آمنين؟ أما كان من الأجدى تفادي هذا الخلط الفظيع بتغيير طفيف يفصل بين المصدر والفرع؟

وقد يرى البعض أن التوصيات التي اُعلنت في الختام قد " ابتعدت عن الأدب وهمومه، وركزت على الأدباء أنفسهم وذلك بالمطالبة بإنشاء صناديق لدعم الأدباء وكفالتهم"، لكن ذلك لا يمكن أن يشفع للمؤتمر الذي حشد الفعاليات المنبرية التي أظهرت "غلبة الأكاديميين على الأدباء" دون وجه حق، فالمؤهلات العلمية لم ولن تشهد لأولئك الدخلاء بالانتماء للأدب، ذلك أن الأدب " كما نفهمه حالة إبداع وتفرد"، وليس حالة فكر وبحث ودراسة. من يستطيع أن يلوم الأدباء على انتقادهم صيغة واستراتيجية هذا المؤتمر الذي أهمل قضاياهم الحيوية وركز على قضايا الأدب الجامدة؟ ما للأدباء ولهذه البحوث المملة من مثل: "صوت المرأة السردي، إشكالية الكتابة النسائية بالمحددات السوسيولوجية لهوية المرأة العربية"، و "الشعر السعودي في رؤى النقاد العرب: عبد الملك مرتاض أنموذجاً"، و "ملامح المكان الخارجي ‏في الرواية النسائية السعودية ودلالاته"، و "الأدب السعودي المترجم إلى الإسبانية"!!!

أين الأديب السعودي من كل هذا التنطع النقدي المعقد؟ طبعاً، البون شاسع.

لا بد أن صوت العقل قد انخرس تماماً، ففي داخل هذا الاعتراض المحبَط من خلط المسميات ومن صدمة الأوراق البحثية المدرسية يكمن جوهر عزوف الأدباء عن الملتقيات الأدبية والفعاليات التي تقيمها الأندية الأدبية في أنحاء المملكة. الآن أصبح الأمر جلياً: فكل الملتقيات التي تعلن عن فحواها بوضوح وتسمي نشاطها بمسماه الحقيقي ينفر منها معظم الأدباء السعوديين ولا يحضرها إلا القلة. والحق معهم بالطبع، فالأدباء المبدعون المتفردون لا ناقة لهم ولا جمل في تلك الأوراق البحثية والدراسات النقدية التي تنحاز لقضايا الأدب على حساب قضايا الأديب. يعكس هذا الاعتراض المنتقد أمراً في غاية الخطورة، إذ إنه يفسر السبب الحقيقي وراء ضعف الاقبال على برامج وفعاليات الأندية الأدبية: فالأديب في " ناحية، والأندية الأدبية في ناحية" أخرى، خطان متوازيان لا يلتقيان أحدهما يمثل قضايا الأدب والثاني يمثل قضايا الأدباء!

إن سألنا معشر الأدباء عن سبب عزوفهم عن المناشط الأدبية فسنسمع أسباباً شتى، لكنها كلها تتهم المؤسسة الثقافية وتلوم القائمين عليها. وقد يعبر هؤلاء عن حنقهم بشكل غير مباشر حين يفسرون غيابهم بتحميل الفاعلين في الأندية مسؤولية غيابهم الدائم: فهم ذوو ذهنية تكنوقراطية، يتمترسون خلف قلاعها الرسمية، ويديرونها بشكل روتيني، وهم نخبويون يستقطبون نخبة النخبة بشكل تكراري وبمعيار الشللية ليقيموا لهم أمسيات أدبية ركيكة فقط لكي تظهر أسماؤهم وصورهم في الصحف والمجلات كقادة للحراك الثقافي. لا بد أن هذه الأسباب المُقْنعة كافية تماماً لمنع أي أديب من التفاعل مع الأنشطة، لكن السبب المباشر يطل بقوة من خلالها. من الملاحظ أن الأسباب في مجملها تحمل بذرة الغضب والتشكي من تهميش الأدباء وشجونهم، فالمنابر تطرح قضايا الأدب بمنأى عن ملامسة همومهم.

يحمل الاعتراض على صيغة مؤتمر الأدباء نبرة تتكرر في انتقاد كل ملتقياتنا الأدبية، هي نبرة تنم عن رغبة جامحة في أن يكون الأدباء السعوديون هم بؤرة الاهتمام ومحور الساحة الثقافية المحلية. حينما يتحدث هؤلاء عن الإقصاء والاستبعاد فهم لا يقصدون أن أبواب الأندية موصدة دونهم ولا أنه لا يتم دعوتهم للحضور، بل المعنى الذي يكمن في قلب الشاعر هو أن المنابر لا تهتم بتقديم الأعمال الابداعية بشكل مكثف وربما حصري، بل تدور في أفلاك الأدب كفكر ومنهج ومعرفة. يشعر معشر الأدباء أنهم مستبعدون عن مواطن الفعل الثقافي الرسمي الذي لا يقرأ أعمالهم ولا يرضي طموحاتهم بتركيز الأضواء عليهم وإفساح المجال لهم للظهور في دوائر الضوء. سيتفاعل الأدباء ويزداد إقبالهم على الفعاليات حين يقرأ أعضاء الأندية أعمالهم ويقدمونها مادة على منابرهم خاصة لو أعطوا تلك الأعمال نصيبها المستحق من المديح والتكريم. دار محور لجماعة حوار بنادي جدة الأدبي منذ سنوات حول الرواية النسائية السعودية، وفي كل جلسة كنا نناقش رواية لكاتبة يدعوها النادي للحضور، رغم أن الدعوة عامة. كانت كل كاتبة تحضر مزهوة وسعيدة بحضورها، ففي مناقشة عملها تكريم لها. بعد انتهاء الجلسة تختفي تلك الكاتبة ولا تعاود الحضور للاستماع إلى نقاشنا حول رواية أخرى لكاتبة مبدعة مثلها، ولا تهتم بمشاركتنا الجدل المحتدم حول رواية المرأة السعودية ولا الرواية السعودية من أصله. كل هذا هو خارج دوائر اهتمامها، وكل هذا ينطبق على كل أديب مبدع بينه وبين الأدب بون شاسع، ولن يغريه الحضور والاستماع والمساهمة في تفعيل المعطى الفكري في الساحة الثقافية، لن يشفيه من عقد الانعزال والإقصاء والاستبعاد سوى عرض أعماله ومناقشة كتبه والثناء على دواوينه ووضعه في الواجهة حيث مكانه الطبيعي والمكتسب. نعم أيها القائمون على الأنشطة الثقافية ويا أيها المنظمون لكل فعالية وكل ملتقى وحتى كل مؤتمر، إنها مسؤوليتكم في المقام الأول. أصغوا جيداً لهذه النبرة الحانقة، وكفانا نبشاً في قضايا فكرية ونقدية لا نفع لها، كفانا بحثاً ودراسة لمواضيع مملة لا جدوى من ورائها، ولنخلي الواجهات من كل أكاديمي دخيل، وكل متثاقف عقيم، ولنركز كل جهودنا فقط على (الأدباء) دون أدب.

استشهادات:

http://www.al-madina.com/node/208417

http://jidar.net/views/230/12/2009/002358.htm

http://www.al-jazirah.com/culture/2009/31122009/aguas14.htm

http://www.alarabiya.net/articles/2009/12/12/93976.html

http://www.aawsat.com/details.asp?section=19الجزيرةissueno=11349الجزيرةarticle=549817

http://www.al-madina.com/node/206641

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7712 ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض