مضى اليوم الأول في وظيفتي كصبي في ذلك الدكان الصغير أعمل في النهار وكحارس أنام في المخزن في الليل على فراش بارد يعلوه التراب!
وفي أحد الأيام عند الضحى كنت واقفاً أمام الدكان فإذا هو أبي يقف أمامي فقفزت من مكاني كالمجنون واندفعت إليه وارتميت في صدره وفي أحضانه وأنا أبكي وأنشج فضمني وهو يبكي كأنه لم يصدق أنه سيجدني في يوم من الأيام. كدت أعتذر وأطلب الصفح ولكنه وضع يده على فمي، وسمعته يهمس بحزن كبير: الله لا يبارك فيك يا حشر الله يجازيك!! وراح أبي يسألني كيف جئت إلى الرياض ومع من وماذا تفعل ورأيته قد اطمأن وهو يمسح دموعه قائلاً: لماذا فعلت ذلك وهل كنت سأتركك لحشر بهذه السهولة.
- لقد خفت يا أبي فالرجل قاسي القلب وأنت تعلم ماذا فعل بالدحمي والسلمي والعبيدي!!
- لا عليك ولا تخف سنعود إلى الديرة في الحال!
- لا يا أبي دعني هنا أشتغل عند الرجل الطيب ثم هو الآن معزبي وعمي وقد سمح لي أن أتعلم وقدمت امتحان الشهادة الابتدائية وعندما تظهر النتيجة فسوف أدرس في الرياض كما وعدتني بشكل مستمر!
- ولكن أمك وإخوتك يا ولدي يريدونك ويريدون الاطمئنان عليك!
- أنت تطمئنهم علي هيا نذهب إلى الرجل الذي شغلني وآواني.
وما كاد الرجل يبصر ابي حتى أخذه بالأحضان فهو يعرفه منذ زمن كان والدي يشتري منه السكر والقهوة والرز! اعتذر الرجل وحلف لأبي أنه لا يعلم أني ابنه وإلا لكنت ضيفاً عليه لا صبياً في الدكان!
وروى له والدي ما حدث كما كنت رويت له فقال الرجل: علمت ذلك من ابنك دعه عندي سيكون مع أولادي حتى تهدأ الأمور في الديرة وهو لن يشتغل وإنما سيكون مع الأولاد في البيت!.
واطمأن أبي علي بعد أن أقنعه الرجل وعاد إلى القرية!! بعد أن زودني ببعض المال وذهب بي إلى سوق الحساوية في المقيبرة وألبسني ثوباً جديداً ونعالاً جلدية من سوق (الخراريز) ثم ذهبنا سوية إلى قريب لنا يعمل في مزرعة البطحاء وتعشينا عنده ثم سافر والدي وكنت جالساً ذات يوم في الدكان أفكر في أهلي وفي زاهرة محبوبتي - كنت في الدكان- فقد رفضت أن أقيم في بيت الرجل دون عمل وبينما كنت كذلك فإذا بأحد أولاده وكان في سني قد دخل الدكان واتجه إلى صندوق التجوري يريد أن يأخذ ما به من النقود فقلت له:
- دع النقود من فضلك وعندما يعود والدك خذ ما تشاء فهذه النقود أمانة عندي!
- قال بتكبر وتعال: هالحين أنت خادم عندنا وتمنعني من أخذ فلوس أبي أبغي أخذ اللي أريده غصب عن خشمك يا صبي؟!
- لا يمكن أن تأخذ هللة واحدة قبل أن يأتي الوالد ويسمح لك.
- أقول آخذ غصب.. انقلع من وجهي!
ووقفت أمام (الجارور) لاحول دونه ودون النقود فإذا به يتناول العقال من على راسه ويبدأ في ضربي بكل قوته ولم أكذب خبرا فتناولت العقال منه وضربته حتى لم يعد يستطيع الحراك!.
- وغادرت الدكان ودمعتي في عيني لقد عيرني بأنني صبي وخادم ويشهد الله أنني لم أكن كذلك في يوم من الأيام ولكنها الظروف التي تدوس الكرام بلا رحمة وبلا هوادة!
- حاول الرجل استرضائي ولكني رفضت العودة إلى العمل فبدأ التأثر على وجهه وقال:
- وماذا سأقول لوالدك تكفى يا ولدي لا (تفشلني) وتحرجني قدام والدك وسوف أدوس ولدي بالنعال لأجلك!
- لا. لا تفعل أي شيء فأنا غير محتاج للعمل، معي فلوس والحمد لله! وكلها من خيرك!.
- ولكن.. أين ستذهب؟
- سأدرس.. سأطلب العلم!
- وبقي الرجل حائراً أمام إصراري ولكنه بعد لحظات قال: اسمع يا ولدي أنت أمانة عندي وحتى اطمئن عليك أحب أن تكون قريباً مني وأمام عيني لدي بعض العمال يسكنون في بيت طيني وفيهم رجال محترمون كبار في السن سوف تسكن في إحدى الحجر وسأوصيهم عليك خيراً.. ما رأيك؟!
- قلت وأنا أبتسم: شكراً قبلت هذا هو الحل جزاك الله كل خير!
ودارت الأيام وأصبح صبي الدكان طبيباً واستقبل ذات يوماً في عيادته عمه صاحب الدكان الذي عطف عليه فلما رآه ذلك الشيخ الحنون طفرت من عينه دمعه الفرح!.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5064» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض