طالعتنا الأستاذة سهام القحطاني الخميس الماضي بورقة نقدية بعنوان: (هل نجح السبيل كعراب) لمقالة الدكتورة لمياء باعشن (السبيل: القوس وباريها)، وفي التوافق والتشاكل بين الورقتين ما يحفز للقول، على الأخص تلك الأسئلة العملية التي تسلسلت في ورقة السبيل كعراب عن طبيعة الإنجازات التي تمت أو الإضافات التي لم تتم.
بداء ثمة اتفاق معلن بين الورقتين على القراءة الثنائية في تصنيف الوسط الثقافي في تعامله مع الدكتور السبيل، بمعنى انقسام المثقفين إلى طرف معارض وآخر مؤيد، برأي لمياء هنالك طرف تفهم المرحلة التاريخية واستبشر بالبدايات خيرا وآخر لم يعرف الصبر وحمل الوكيل ما لا يستطيع من تحقيق الأحلام مرة واحدة، بينما تجد سهام أن الانقسام كان مابين المكتسب من السوق كطرف مؤيد والخاسر فيه طرفا معارضا، ولعل في هذا التصنيف الثنائي قراءة إجمالية لكنها تبقى تقليد معرفي يتسلسل كنمط فكري يحكم عمليات القراءة التقييمية في البلد حول مختلف القضايا بعديد المجالات، وعدا عن مشكلة البداهة في هذا التقليد المعرفي هنالك انعكاس سيء على متبنيها، ففي تصدير القحطاني مثل (لا يحمد السوق إلا من ربح) عنوانا لورقتها ما يعني أن أي كشف عن أخطاء أو نقد ستحمله الورقة هو نتاج خسارتها في السوق، ذلك لأن تصنيفها الرأي الإيجابي لباعشن عن السبيل يعني تأسيسا لطرفية النقد وانعكاسا مباشرا عليها كطرف معارض، وهو تماما ليس الدافع في الورقة التي حاولت نهج الموضوعية . هل يمكن اعتبار القحطاني خاسرة في السوق لكونها لم تربح قراءة مغرضة ؟ هي كذلك لكنها لن تكون مشكلة المغرض قدر ما هي مشكلة الطرح والعنوان.
والعنوان الاستفهامي عن نجاح السبيل كعراب سيتحمل سؤالا يجب طرحه عن مفهوم العراب، وهو ككلمة رئيسة في ورقة سهام لم يكن ليتخفى في ورقة الدكتورة كمعنى وإن غاب كلفظ، فهل ثمة إيمان بمفهوم العراب في الوسط الثقافي سواء عن وعي أو دونه؟ كيف يمكن للمثقفين والنقاد على صفة أكثر خصوصية - حيث الجهود الكبيرة للأستاذتين - أن ينتجوا أعمالهم أو يديروا أنشطتهم تحت سقف اعتقادي يؤمن بالعراب!! هل تشترط مرحلة الفوضى الحيوية كما سمتها سهام الإبقاء على هذا المفهوم من حيث إن المخيال الثقافي يحتاج إلى شخص معلم ومربي ينجز الإلهام ويحْسن الامتثال به والشوق إلى محاكاته؟ ألا يزال لاوعينا الثقافي يحتمل الفرد الأقدر أو حتى الأمثل الذي يستطيع وحده خرق الشروط ويحقق حالة ملهمة في منصب إداري وكرسي وزاري؟ وهل يشكل العراب كمعنى وجود حقيقي ما يمكننا من اعتباره مفهوما؟ أو انه ورد في الورقة كنايةُ ولفظا دلاليا على حالة الرضى التي وجدتها سهام في رأي الدكتورة عن السبيل فأعربت عنها على هذا الوجه فقط.
صرحت ورقة الدكتورة بإنجازات الوكيل في تشكيل الجمعيات ولم الشمل ورفع المظلات، تماما كما حملت نوعا من الترميز حول طبيعة الضغوط والسلطات التي تحكم كرسي الوكيل، وكان في الأقواس كرمز الكثير مما يشف عن الحقائق والواقع الضاغط الذي تدركه باعشن وتتصبر القول عنه، كما هنالك الكثير مما سكت عنه في المقالة وهو ما خلق مساحات عمل الأستاذة سهام فيها. وقد قدمت (القوس وباريها) محاولات استشفافية عن ما يمكن أن يكون سببا وراء الاستقالة ودارت كثيرا في خلد الوكيل كحالة لوم الذات التي تقدمت الاحتمالات كسبب ترتب على مدى العتب والنقد الشخصي الذي وجده السبيل من المثقفين بمناسبات عدة، وقد مثل تعامل المثقفين هذا نوعية القيود الداخلية التي كبلت عمل الدكتور على السواء مطالبة ومعارضة، وهي إحالة واضحة تقول عن إيمان يترسخ بأن المثقفين يشكلون حاجزا أول وأساسي لنجاح مجالهم قبل أن يكونوا ضحية السلطات الأخرى.
والسلطات الأخرى تحضر في ورقة (السبيل كعراب) متشكلة في الظرفيات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية وهي ما يقيد أي مسؤول ثقافي من ضمنهم الوكيل، غير أن القحطاني لم تجد في هذا القيد الخارجي ما يبرر عجز الوزارة في عهد السبيل عن تحقيق أي أمر على مستوى العقل الثقافي وذلك لإخفاقها في الإضافة العملية كوثائق الانتخابات وعضويات الأندية عدا عن المراكز والصناديق وانتهاء باتحاد الكتاب، ومابين القيدين الداخلي والخارجي - وهي بمعنى من داخل الوسط أو خارجه - سيدرك القارئ أن تضخيما ما لحق بالأسباب مقابل تحجيم النتائج لم يكن ليكشف عن اختلاف نهج التقييم مثلا قدر ما كان يشف عن اتفاق على ضعف الأمل في القادم كنتائج وذلك في الخاتمة من الورقتين.
وما بين الأسباب والنتائج أيضا تفاوتا يمثل عدم ثبات تقيمي أكثر منه ازدواجية رأي، حيث ترى الدكتورة أن أي شخص تنفيذي سيكون مناسبا لشغر المنصب فلا داعي للبحث يقابل هذا ما حققه السبيل من نجاحات خاصة وذلك لصفات شخصية، هي ذات الصفات التي تجدها الأستاذة سهام مسألة نسبية وليست معيارا تقويميا يقابلها تمنيها على القادم أو الخلف أن يكون أكثر جرأة وإشاراتها إلى السبيل كشخص مؤدب أكثر مما يجب للمسؤول الثقافي.
وللمسؤول الثقافي أيضا نصيبه في الرؤى فهو مكبلٍ بالأقواس التي تحكم إطباقها عليه كما في (القوس وباريها)، وهو متفاعل ومتجاوب مع المرحلة خطابا وحيثيات أكثر من كونه فاعلا وخالقا في(السبيل كعراب)، وفي الاثنين تسليما واحدا هو «حالة العجز».
درجت (القوس وباريها) على إنجازات السبيل وقد أقامها على أسس ومعايير مدروسة، لكنه حين فعل وضع نفسه بين قوسي المطالبة والمعارضة فأطبقا عليه وتسببا ربما في استقالته، والسؤال هنا، ألم يكن من ضمن تلك الدراسة التأسيسية للعمل أداة قياس النتائج المنتظرة ؟ ألم يكن السبيل على علم بنوع المشاكل المتنبأة أو بطبيعة تفاوت ردود الفعل وهو الأدرى بأن قيادة الشخوص المستقلة كالمثقفين أو إدارة أنشطتهم كمشروع أصعب وأشد تعقيدا من أن يبتدأ كيف إذا ما كان ينتظر أن ينتهي (يتم)؟!
وفي المقابل فاضت ورقة(السبيل كعراب) بمجموعة مساءلات عن حجم الانجازات والإضافات التي تحققت في عهد الوكيل المستقيل، لكن موضوعية المسائلة تنتقض في رؤية القحطاني حين تقول بوجوب تحضير انتماء السبيل للمحافظين الجدد عند تقييم الأداء الوظيفي للمسؤول، بينما المعادلة المفترضة هي: إن كشف الأداء عن انتماء الوكيل فهو دليل تحيزه وربما تحزبه، لكن في استدعاء الانتماء مسبقا لقياس العمل خروجا عن الموضوعية ونقضا لمنهجها، وربما في استحضار المحافظين الجدد كتصنيف أو حتى توصيف ما يضاعف هذا النقض.
كان في الورقتين الكثير مما يفيد في قراءة الأشغال النقدية لأعمال التقييم، سواء طغوة الصمت في مقالة الدكتورة أو موضوعية المسائلة في ورقة القحطاني، غير أن هذه الإفادة تفتح عن أسئلة غابت أو لم يتسع لها الطرح وربما كان لموضوع الاستقالة كحادثة خاصة مرتبطة بشخصية محددة ما يمنع طرحها.
هل ستشكل استقالة السبيل دلالة ما لفشل المثقف في إدارة شؤونه وقيادة مجاله ؟ وبماذا سيختلف المثقفون بأسمائهم الكبرى وقيمتهم لدى ذواتهم من كونهم نخبة فكرية عن مجتمع يصادرهم ولا يحتفي بهم طالما لم يستطيعوا أن يمثلوا حالة اختلاف حقيقية عن بقية وكلاء الوزارات والمجالات والنخب الأخرى ؟ ألا تمثل حالة السبيل دليلا أكيدا أن المثقف السعودي لم ولا يختلف حتى الآن عن أي مواطن أخر تحت صفة العامة عند واقع العمل والهموم الوظيفية بشكلها أحد أهم مشاغل الحياة اليومية، سواء كانت هذه العامة بروفسورا وزيرا أو أمين بلدية أو حتى مدير مدرسة ثانوية، ولعل الأهم من هذا هو كيف سيتسنى للمثقفين اليوم أن يثبتوا لأنفسهم أن بإمكانهم (كإمكان) إلهام المجتمع أو توجيهه تبعا لأهداف المثقفين التنويرية في لحظة وثقت شكل من العجز الواضح عن النجاح بمهمة وكيلهم وقائدهم وهو المثقف المتفق على خلقه وإمكاناته أنتجت أم لم تنتج.
أخيرا إن كان المثقف لا يزال حالة مواطنة تفتقد إلى درجة وعي مدني تؤهلها للإدارة، فربما كانت الثقافة مجال يفتقد للمدنية أيضا.. ربما.
lamia@gmail.com
الرياض