من غرائب مذاهب النحويين عدهم كاف التشبيه اسمًا كما في قول الأعشى الذي عده ابن عصفور من ضرائر الشعر (ضرائر الشعر301)
أتنتهون ولا ينهى ذوي شططٍ
كالطعن يذهب فيه الزيت والفُتُلُ
وكان ابن جني أورده في (سر صناعة 1: 102)، قال: «فالكاف هنا موضع اسم مرفوع فكأنه قال ولن ينهى ذوي شطط مثلُ الطعن فيرفعه بفعله». وابن جني يدرك بذكاء أنّ هذا القول يثير الإشكال، فقال»فإن قال قائل فهل يجوز أن تكون الكاف في هذا البيت حرف جر وتكون صفة قامت مقام الموصوف وتقدير الموصوف على قولنا ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن فيكون الفاعل شيء المحذوف وتكون الكاف حرف جر صفة لشيء الفاعل لأن شيئا نكرة والنكرات قد توصف بحروف الجر نحو قولك جاءني رجل من أهل البصرة، وكلمت غلاما لمحمد، ويكون حذف الموصوف هنا جائزًا كما جاز في ... (قول النابغة الذبياني):
كأنك من جمال بني أقيش
يقعقع خلف رجليه بشن
أي جمل من جمال بني أقيش وغير ذلك مما يطول ذكره»، ثم أجاب عن هذا الإشكال فقال «فالجواب أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه على كل حال قبيح، وهو في بعض الأماكن أقبح منه في بعض»، ولأن الحذف في البيت الثاني لا مفرّ منه صنفه في الضرورة، قال «وأما قوله كأنك من جمال بني أقيش فإنما جاز ذلك في ضرورة الشعر ولو جاز لنا أن نجد (من) في بعض المواضع قد جعلت اسما لجعلناها ههنا اسمًا ولم نحمل الكلام هنا على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه». وعندي أن القبح الذي يهبه القول بالحذف أهون من الزعم بأن حرف الكاف صار اسمًا لا لشيء إلا لأنها بمعنى مثل ولأن حذف الموصوف قبيح. والمتأمل في البيت يرى أن القول بالحذف لازم يقتضيه المعنى؛ فالمعنى (فلن ينهى ذوي شطط إلا شيء كالطعن)، قال البغدادي»يريد أنه لا يمنع الجائرين من الجور إلا القتل»(خزانة الأدب، 9: 461). فالتركيب من الاستثناء المفرغ ولكن حذف منه (إلا شيء) وما لم نقل بذلك يفسد المعنى، فهل المراد (لن ينهى ذوي شطط مثل الطعن)، فأي شيء ينهاهم؟!، وذكر المرادي شواهد لوقوع هذه الكاف في المواقع الإعرابية المختلفة كما يقع الاسم المعرب، ولكنه عقب على ذلك بقوله «واعلم أن منهم من تأول هذا كله، على حذف الموصوف، وإقامة الصفة التي هي الجار والمجرور مقامه» (الجنى الداني، 83)، من هؤلاء الفارسي في أحد قوليه (1)، قال» ولو قال قائل فيها: إنها التي بمعنى حرف الجار لم يكن عندي مخطئًا» (البغداديات، 396)، والرضي الذي قال عن الكاف في البيت المذكور «حرف جر وقد حذف الفاعل وأقيم الجار مقامه، فلا يصح الاستدلال بالبيت على أن الكاف اسم»(شرح الكافية، 4: 269). والذي نميل إليه أن الكاف على بابها حرف جرّ وليس يخل بهذا كونها بمعنى (مثل) إذ (مثل) مع إعرابها أقرب إلى الحرفية لدلالتها دلالة حرفية هي التشبيه كما تدل عليه الكاف، وليس يضير حذف الموصوف وإحلال الصفة محله؛ فهو كثير في الاستعمال اللغوي، إذ ينوب عن المصدر نعته، وينوب عن الظرف نعته أيضًا، وأمر عدّها اسمًا في تلك الشواهد هو مجرد احتمال غير متفق عليه، وما يدخله الاحتمال يبطل به الاستدلال.
(1) قال في (البصريات، 537- 538) «فلا يجوز أن تكون حرفًا؛ لأنك إن جعلتها حرفًا لزم أن تجعلها صفة لمحذوف... وإذا جعلته وصف محذوف بقي الفعل بلا فاعل، وذلك غير جائز عندنا».
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض