كانت الندوة في مركز ابن صالح، وكان صاحبكم مديرها، وأسَرّ إليه أحد مسؤوليه بأن «الشيخ» موجود ضمن الحضور، ويقتعد كرسياً في الصفوف الخلفية؛ فلعلك تطلبه للتعقيب.
أُنسي الندوةَ وموضوعها وضيوفها، لكنه لم ينسَ ذلك الموقف المحرج، وهو يقدم للمداخلة « المرتقبة « بثناء على الشيخ وتثمين لحضوره وطلب تعليق منه، وران السكون في انتظار ما يقوله ذلك الكبير، لكن الصمت امتد بالصمت، والواقفون على رأسه «بالمايك» يحاولون استنطاقه وهو مطرق لا يرفع لهم رأساً، والثانية في مثل هذه الحالة دقيقة، وسارع - بعدما قرأ الوضع» وفق إيماءات الرؤوس» - إلى الاعتذار منه وعنه واستئناف المنتدى.
عالم يشار إليه حين يحل ذكره، غير أنه اعتزل الناس مبكراً، وانكفأ إلى عمل رسمي يلائمه في مكتبة مدرسية بمكة المكرمة، واكتفى - بعد التقاعد - بتنقل موسمي بين مكة شتاء وعنيزة صيفاَ، وبشابٍ نابه يلازمه كظله بأكثر مما يبَرّ الابن أباه ( اسمه: إبراهيم المهنا التركي) ، وبرفقةٍ يلتئم معهم كل ثلاثاء لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة؛ ومنهم الشاعر الأستاذ محمد السليمان الشبل - رعاه الله -، ولعل عقدها انفرط بعد وفاة مستضيفها الخال محمد الصالح الرعوجي - عليه رحمة الله -
كان الأول على الدفعة الأولى من خريجي «كلية الشريعة بمكة المكرمة» عام 1372 هـ، وتلاه الشيخ محمد بن جبير - رحمه الله -، وقد درس على يد الشيخ الإمام عبدالرحمن الناصر السعدي - غفر الله -، ووالده من تجار العقيلات، أمضى حياته في مصر، ونقل للمملكة للعلاج حتى اختاره الله إلى جواره.
الشيخ عبدالله الصالح الفالح (1347هـ -عنيزة) فقيه وشاعر ومحدث ؛ عرف بذكائه وسرعة بديهته؛ حتى تناقل الناس حكايته مع معلم نحو انتقد طالباَ أدخل حرف «لم» على الفعل الماضي؛ فأجاب عنه الشيخ عبدالله بأن (ابن مالك) أجاز ذلك في الألفية فقال:
وجوزوا دخول «لم» على المضيْ
ك: لم سعى، ولم دعا، ولم رضيْ
وهو بيت انتحله من ساعته؛ فشك المعلم في علمه، وفاتته الصلاة في الجامع الكبير بعنيزة - وهو من المساجد التي تقيم الصلاة متأخرة حتى إن بعض المساجد المجاورة، وتحديداً «الخريزة» ينصرف مصلوها قبل شروع الجامع في الصلاة؛ فارتجل بيتين جميلين يعبران عن حالته؛ واصفاً الإمام والمؤذن - غفر الله لهما - بالاستعجال، ولم يكونا كذلك، ولكنه الشعر والشعور والشاعر.
في عام تخرجه افتتحت المدرسة السعودية بعنيزة (1372هـ) فقال قصيدة ما يزال جيل تلك الأيام يرددها حتى حفظنا بعض أبياتها منهم، وفيها:
طلع الصبح فهل رنوت إلى هنا
لترى السنا الرفاف يهتف بالمنى
ومنها:
أبدا أنا الباكي إذا وطني اشتكى
وأنا الغنيٌ، ولو عدمتُ، إذا اغتنى
في مهجتي ألم وفي قلبي أسى
حتى أرى وطني أعزّ وأمكنا
له شعر لم ينشر، ونثر لم يجمع، ورؤى يعيها مجايلوه، وقد رحل معظمهم، وخُلَّصه، وهم ندرة، ولا يعنيه ما قيل أو يقال عنه؛ فتكفيه قناعته واقتناعاته، يوم يمضي للقاء ربه - بعد عمر طويل وعمل صالح متقبل، راضياً ببيته الطيني المتواضع جداً في «حي الجوز»، ولا يعبأ «فلم يجنِ على أحد».
الصمت رحلة المبدعين.
ibrturkia@gmail.com