مهما حاولنا غض الطرف.. أو إقناع أنفسنا أننا في عصر الديناميكية الإبداعية والاتجاه نحو كل جديد.. أياً كان هذا الجديد.. حتى لو كان منسلخاً من القيم الجمالية.. أو كاشفاً نهجاً جديداً يبرر أصحابه للرأي العام أن المتلقي اليوم يختلف عن السابق، فعلينا أن نضع في الاعتبار أن الإنسان هو الإنسان في كل العصور، وأن النظرة لأي عمل فني لا تتوقف أو تحد بزمن أو ثقافة أو وعي بقدر ما تكون متاحة للعقول وللميول وللأبعاد التي يحملها كل متلقٍ لأي عمل.. حديثاً كان أو قديماً، ولهذا علينا وعلى النقاد والمبدعين أن يمسكوا بعصا آرائهم أو نقدهم من منتصفها.. ويوازنوا بين كيفية تحليل العمل بكينونته وكيانه.. وبين أن يلغي ما يبقيه، وبين ما يفرض من جديد الفنون، فقد قيل إنه لولا اختلاف الآراء لبارت السلع، تؤكد هذه المقولة والنظرية بأن الجمال أمر نسبي يختلف من شخص لشخص.. وهكذا هو العمل الفني وكيفية التعامل معه وتقييمه وتقديره.. ومن ثم اقتناؤه.
ومن الجميل أن نرى في المنافسة العالمية التي أطلقها مزاد كريستيز في دبي، القيمة الفنية والمادية للأعمال العربية الحديثة بطرحها.. المتمسكة بمصادر إلهامها.. النابعة من صدق وجدان مبدعيها، تكتسح المزاد وتكسب الاهتمام وتصل إلى هذه المبالغ التي لم نكن نسمع عنها إلا في بيع اللوحات العالمية لمشاهير الفنانين العالميين.
الفن التشكيلي العربي بالملايين
قبل أيام تناقلت مختلف الصفحات الثقافية والإخبارية ومواقع الإنترنت خبر نتائج مزاد كريستيز للأعمال الفنية العالمية الحديثة والمعاصرة المقام في دبي وحمل الخبر ما مفاده، أن إجمالي المبيعات في مزاد كريستيز الذي يقام سنوياً في دبي ويهتم بفنون الشرق يقدرب (15.122.125) دولار أمريكي.. 55.528.443 درهم إماراتي، وقالت الدار إن نتائج المزاد لهذا العام.. وفي هذه الدورة تؤكد الطبيعةَ المميزة للأعمال الفنية المشاركة من جهة، وشَغَف المُقتنين المُخضرمين والجُدد من حول العالم باللوحات والمنحوتات التي يبدعها رسّامو ونحاتو (المنطقة)، (لاحظوا كلمة المنطقة التي تعني الشرق الأوسط والعالم العربي تحديداً).. ويكمل الخبر الذي جاء فيه:
وأوضحت كريستيز أن تقسيم المشترين (حسب القطعة - المنطقة) جاء على النحو التالي: (64.5) بالمائة من الشرق الأوسط تحديداً في أعمال الفنان المصري محمود سعيد (سيأتي الحديث عنها لاحقاً)، وبقيت النسب الأخرى على النحو التالي (16.5) بالمائة من أوروبا، و28 بالمائة من الأمريكتين، و1 بالمائة من آسيا.
يبيّن الخبر وما تحقق للفنون العربية من حجم واهتمام وقيمة مادية جوانب كثيرة، في مقدمتها لفت النظر للإبداع العربي وإزاحة الغشاوة التي اختلقت من قبل سماسرة اللوحات وتجارها العالميين الذين لم يمنحوا الفن العربي فرصته في المتاحف العالمية وقاعات العرض في أي بلد غربي، وتقديم أعمال فنانيهم ونشرها عبر مختلف السبل مع ما يتم من سعي لطمس ثقافتنا التي يُشكّل الفن التشكيلي أحد روافدها.. وإذا كان الخبر ملفتاً النظر للمهتمين الغربيين بالفنون التشكيلية العربية واعتبار ما حدث إعادة نظر لاكتشاف هذا الكنز الكبير فإننا لم نكن مستغربين أو مندهشين لثقتنا بإبداعات الفنانين العرب وفي كل قطر عربي في أن أعمالهم تنافس وتتفوق على أي عمل عالمي حقق شهرة وحظي بأن يكون جزءاً من ثقافة وحضارة تلك الدول.. بينما لا يجد الفن العربي مثل هذا الاهتمام فبقي في المخازن ومستودعات المؤسسات الثقافية وفي منازل المقتنين لها.
ونذكر هنا ما جاء على لسان يوسي بلكانن، رئيس دار (كريستيز) في أوروبا والشرق الأوسط في حديثه للصحافة حول الأعمال الفنية المصرية لمبدعين من أمثال محمود سعيد وحامد ندا وعبد الهادي الجزار ومحمود مختار، خطفت الأضواء في المزاد.
مؤكداً في حديثه أن لا غرابةَ في أن ما حدث في هذا المزاد كان مثار دهشة للجميع، مشيراً إلى ما تضمنه المزاد من روائع الأعمال الفنية الشرق أوسطية التي قال إنها تستأثر باهتمام المقتنين حول العالم.. ويضيف يوسي بلكان ثقته من أن ما حدث بهذا الحجم من المبيعات للأعمال الفنية الشرق أوسطية سيعطي للمقتنين حول العالم الثقة المطلقة للمواظبة على عرض مقتنياتهم من الأعمال الفنية في مزادات (كريستيز) بدبي).
استثمار عالمي وغياب عربي
ونحن هنا نعتز ونفخر أن تكون أعمال الفنان المصري محمود سعيد (1897 -1964) رمزاً من الرموز الإبداعية العربية ممثلاً للكثير من الفنانين وليكن دليلاً على ما يملكه الفنان العربي من قدرات وفي فترات مبكرة ولنا في تألقه في مزاد الأمس بلوحته المعنونة بالشادوف (Les Chadoufs) التي تعود إلى عام 1934، مسجِّلةً رقماً قياسياً كأثمن لوحة حديثة لفنان بمنطقة الشرق الأوسط، حيث بيعت بقيمة 2.434.500 دولار أمريكي - 8.939.484 درهم إماراتي.. مع ما تم بيعه من اللوحات في هذا المزاد والتي كانت من مقتنيات المهندس السعودي د محمد سعيد فارسي وبأسعار أقل بقليل من الشادوف.. منها أعمال للفنان حامد ندى ومحمود مختار، وعبد الهادي الجزار.
إن مثل هذا الإنجاز العربي وبدعم من مؤسسة عالمية أصبحت شاهداً ومصدر ثقة في إبراز الأعمال الفنية العربية يدفعنا للتساؤل عن المستثمر العربي الذي ما زال يعيش في دوامة العقار والأبراج والمواد الغذائية ومستلزمات الأسرة جاهلاً أو متجاهلاً دور الثقافة وأهمية الأعمال الفنية مانحاً الفرصة للمستثمر الغربي في أن يكتشف ويجني ثمار مثل هذه العطاءات، لقد استبشرنا بكثير من الأسماء على مستوى المنطقة.. وعلى المستوى المحلي دعموا الساحة التشكيلية بالاقتناء.. واعتبروا من أهم المقتنين والمسوقين للأعمال الفنية.. لكن الأمر لا يتعدى التجميل والدخول في مشاريع صغيرة لا تمكنهم من التنقيب بشكل أعمق عن الأعمال الحقيقية التي تحمل تاريخاً واسماً وتجربة أصيلة تمثل جزءاً كبيراً من مراحل الاهتمام بالفنون وفي فترات مبكرة.
الفارسي وبُعد النظر
ما ذُكر أن إحدى وعشرين لوحة من أصل خمس وعشرين من مُقتنيات د. محمد سعيد فارسي يكشف لنا ما يمتلكه هذا الرجل من عين ثاقبة وعقل مدرك لقيمة العمل الفني وقدرة على اختيار الأعمال ذات القيمة موضوعياً وتقنياً وتاريخياً فقد بيعت الإحدى عشرة عملاً من مقتنياته بقيمة تجاوزت القيمة التقديرية الأولية، كما سجَّلت المجموعة ثمانية أرقام قياسية عالمية جديدة لرسامين مصريين، وبهذا يجب أن نذكر ونؤكد أن في اكتمال الأضلاع الثلاثة ما يحقق النتائج الإيجابية للأعمال الفنية في مستقبل الأيام ونعني بالأضلاع وجود مزاد نشط عالمي العلاقات ووجود أعمال راقية المستوى مهما كان عمرها.. قديمة كانت أو وليدة عصرها.. ومقتنٍ يقدر هذا الإبداع، فالمقتني لا يمكن أن يقبل على اقتناء عمل ما لم يكن لديه وعي بأنه مجال للاستثمار وأنه ثروة تستحق المغامرة مثل أي مجال تجاري مع ما يحمله الإبداع والثقافة من قيمة حضارية تدوم بدوام الإنسان الحضاري.
إطلالة على مبيعات مصر في كريستيز
يمكن لنا في الختام أن نطل على أسماء الفنانين المصريين وعناوين لوحاتهم والمبالغ التي حققتها في هذا المزاد علماً أنها جميعاً من مقتنيات الدكتور محمد سعيد فارسي والتي جاءت على النحو التالي:
محمود سعيد (مصر، 1897-1964)، (الشادوف) Les Chadoufs) 1934)
- 8.939.484 درهم.
محمود سعيد (مصر، 1897-1964)، Sunset on the Nile at Luxor) 1945)
3.313.980 درهم.
محمود سعيد (مصر، 1897-1964)، A Girl Sitting on the Floor) 1950)
2.432.700 درهم.
حامد ندا (مصر، 1924-1990)، Henna Eve) 1988)
درهم 2.212.380.
محمود مختار (مصر، 1891-1934)، When Meeting the Man) 1929)
درهم 2.212.380.
عبد الهادي الجزار (مصر، 1925-1965)، (The Cosmorama Sandouk El-Dounia), (1951)
درهم 2.124.252.
محمود سعيد (مصر، 1897-1964)، Rocks And Hills In Aswan) 1953)
1.771.740 درهم.
monif@hotmail.com