كنت في رحاب البحرين الجميلة بما فيها، الحبيبة إلى النفس بمن فيها؛ وذلك لحضور ملتقى جمعية التاريخ والآثار في دول مجلس التعاون الخليجية، ومن هناك سافرت إلى دبي حيث حضرت مسابقة شعرية لطالبات كلية الشريعة واللغة العربية، التي يبلغ عدد من فيهما أكثر من ثلاثة آلاف وستمائة طالبة يدرسن مجاناً وتساعد المحتاجة منهن بثمانمائة درهم شهرياً.. وهذا كله بفضل الكريم الشيخ جمعة الماجد أكثر الله أمثاله، وجزاه عما يقوم به من أعمال خيِّرة خير الجزاء.
وبعد ما عدت إلى الرياض، وذهبت إلى مكتبي صباح يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الأولى، الثامن والعشرين من شهر أبريل الماضي، سعدت كل السعادة بوجود مجلة الإشعاع، التي أعادت طباعتها مجموعة في مجلد واحد دار المفردات للنشر والتوزيع هذا العام، فتصفحتها تصفح المشتاق إلى ما يشتاق، وأعجبني ما وجدته بين طيات صفحاتها من موضوعات شتى كلها تُعنى بقضايا وطننا العزيز وأمتنا العربية كتبها كُتّاب هم الآن في مرحلة الكهولة، ومنهم من انتقل إلى رحمة أكرم الأكرمين، وكان أكثر أولئك الكتاب حينذاك شباباً يتدفقون حماسة وطنية في تناولهم لما كتبوا عنه، كما كانوا من مختلف مناطق المملكة، وإن كان معظمهم من منطقة نجد، ومن أولئك من كان ما كتبوه في المجلة شعراً، بل إن من بين من كتبوا فيها مبدعون من خارج وطننا العزيز، وفي طليعة هؤلاء الشاعر البحريني أحمد بن محمد آل خليفة.
كانت انطلاقة مجلة الإشعاع؛ مجلة شهرية أدبية اجتماعية، في المنطقة الشرقية من الوطن العزيز؛ وذلك في شهر محرم 1375هـ - سبتمبر1955م، وامتد عمر صدورها - وفق ما هو مطبوع في المجلد - إلى شهر شوال من سنة 1376هـ.. أما صاحبها ورئيس تحريرها فهو الشاعر المرهف شاعرية والكاتب المتقد حماسة وطنية الأستاذ سعد بن عبد الرحمن البواردي، وسيأتي الحديث باختصار عنه فيما بعد إن شاء الله، وكانت خميسية الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله رحمة واسعة- يوم الخامس عشر من جمادى الأولى عن الإشعاع وصاحبها الكريم.
لقد طاف بي ما هو مطبوع - أو معاد طبعه - إلى آفاق من ذكريات جميلة عشتها إلى جانب أساتذة لي كرام وزملاء دراسة أفاضل، كما عرَّفني بمرحلة عمر لعلماء أجلاء ما كنت أعرف أنهم كانوا حينذاك بمثل تلك المقدرة من الإبداع والعطاء الفكري.. وهؤلاء وأولئك كثيرون، لكني سأشير إلى كل واحد من الأساتذة وزملاء الدراسة، والعلماء الأجلاء.
كان من أساتذتي الكرام الذين سعدت بوجود كتابتهم في المجلة، أستاذي الجليل سعد أبو معطي -تغمَّده الله برحمته ورضوانه- وكان مديراً للمعهد العلمي في عنيزة؛ وهو المعهد الذي يرجع ما وفقت إليه من معرفة في اللغة العربية وعلوم الشريعة إلى الله ثم إلى أساتذته الكرام، وكان الأستاذ سعد إلى جانب إدارته للمعهد أستاذاً لي ولزملائي في الفصل في مادتي البلاغة والإنشاء.. وكان ما يكتبه في دفتر الإنشاء، الذي لا أزال احتفظ به، من تعليقات تشجيع لما كنت أكتبه؛ وبخاصة ما كان يتضمن أبياتاً من الشعر، حافزاً لي على كتابة المزيد المزيد، وكان يوقع ما كتبه من شعر في مجلة الإشعاع باسم مكنَّى هو: أبو ساطي.. من بين القصائد التي نشرها في هذه المجلة قصيدة بعنوان "يأس" قال: إنه يهديها إلى الذين يسهدون بينما ينام الخليُّون.. ومطلعها:
كلما فاضت الهموم بكأسي
أتأسَّى وليس يجدي التأسّي
ومن تلك القصائد قصيدة عنوانها: "أغاريد" ومطلعها:
طاف بالروض شاعر يترنَّمْ
يسكب اللحن من شعاع مجسَّمْ
كلما لامس العقول صداه
هزَّها هزَّة المشوق المتيَّم
أما من كان من زملاء الدراسة فهو الشاعر سليمان الشريف، الذي تنقاد له قافية الشعر مثل انقيادها لأبي تمام والبحتري، وشعره الجميل من السهل الممتنع.. وكان من روائع شعره في تلك الفترة قصيدة عن العدوان الثلاثي على مصر مطلعها:
الله أكبر فلتمت يا إيدنُ
ولينتحر موليه ذاك الأرعنُ
وكان من مقدرته الشعرية أن كتب أبياتاً وهو يؤدي الامتحان في مادة الإنشاء أذكر من أبياتها يصف الممتحنين قوله:
سكوت كأن الطير فوق رؤوسهم
يخافون يوم الفصل أن لا يوفَّقوا
والقصيدة التي نشرت له في مجلة الإشعاع عنوانها: "أنَّات بائس"، ومطلعها:
أيها الحادي بمزمار رخيم
ردِّد اللحن على مضنى كليم
سدِّد البؤس إليه في الصميم
ضربات أودعته في جحيم
ورمته في محيطات الهموم
وأما العلماء الأجلاء فمنهم الشيخ عبد الله بن سلمان بن منيع، ومما نُشر له في المجلة مقالة عنوانها: "بحث حول وضع لغة الإنسان".. ولقد أصبح الآن من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، أطال الله عمره على زيادة عمل صالح.
أما بعد:
فماذا عن صاحب الإشعاع سعد البواردي، الشاعر المرهف شاعرية والكاتب المتقد حماسة وطنية؟
كنت قد كتبت كلمة موجزة عنه، وسعدت بإلقائها في حفلة تكريم أقيمت له في مسقط رأسه.. مدينة شقراء، وأجدني أسعد بإعادة كتابتها هنا.
ما أجمل أن يجتمع الأحبة! وما أروع أن يكون اجتماعهم عبقاً بتقدير من يستحق التقدير، وتكريم من هو بالتكريم جدير! ولنا جميعاً من اسم المقدَّر المكرَّم نصيب.. ذلك أنه أضفى علينا رداء قشيباً من سعده وإسعاده.. وتكريم عروس الوشم الشقراء لأسمر من بنيها البررة بها وبالوطن الأكبر معها رمز من رموز وفاء أهلها الكرام.. والعلاقة بين المكرِّم والمكرَّم علاقة ود متبادلة عميقة:
وهل ينبت الخطِّى إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخل؟
سعد المضفي سعادة وإسعاداً من أسرة بواريد لم تخطئ أيمانهم أهداف الشيم النبيلة التي صوَّبوا إليها اهتمامهم.. ورجولة أفرادها معروفة، وسجاياهم متوارثة مألوفة، أما الشعر - وأعتقد أن الأحبة المجتمعين من عشاقه - فالبواريد من المبدعين المجيدين فيه.. ولو لم يكن منهم إلا والد المكرَّم، الأمير عبد الرحمن رحمه الله، لكفاهم فخراً بذلك الإبداع.. أرأيتم أروع وأجمل وأصدق من قوله:
يا هل الديرة اللِّي طال مبناها
ما بلادٍ حماها طول حاميها
كان ما تفزع اليمنى ليسراها
قل ترى ما وطا هاذيك واطيها
وإذا كان الوالد قد عبَّر تعبيراً جميلاً شعراً عن الجو الماضي الذي عاشه وتعايش معه فإن ابنه سعداً نذر قلمه؛ شعراً ونثراً، للتعبير عن نظرته إلى الأوضاع المستجدة التي واكبها وخاض غمارها.
كان سعد؛ وهو يخطو إلى مرحلة صباه ابن أمير يتلقَّى دراسته الابتدائية في مسقط رأسه شقراء، ثم يلتحق بدار التوحيد بالطائف، لكن لم يكن كل أمير حينذاك ميسور الحال مادياً.. ولذلك لم يكن غريباً أن يترك سعد دار التوحيد بمكافأتها القليلة بعد سنتين من دراسته فيها؛ مضطراً إلى البحث عن عمل أجدى للتغلب على ظروف المعيشة.. وكان أن سافر إلى بلدة الخبر لمزاولة العمل التجاري.. لكن من غرس في وجدانه حب القراءة لم يصرفه العمل الضروري عن ممارسة حبه.. وامتزج ذلك الحب بحبه لوطنه، فأقدم على إصدار مجلة الإشعاع، التي حفلت - خلال السنتين من وجودها - بكتابات وطنبة إصلاحية شجاعة، ولم يفتَّ احتجابها في عضده؛ بل واصل الكتابة في قنوات أخرى؛ وبخاصة في مجلة المعرفة، التي كانت تصدرها وزارة المعارف، وفي صحيفة اليمامة، التي أسسها علاَّمة الجزيرة العربية.. شيخنا حمد الجاسر..، رحمه الله، والتي سعد من أعمدة أسرة تحريرها الراسخة. وها هو ذا سعد يمضي أكثر من نصف قرن مناضلاً بقلمه الصادق المخلص؛ شعراً ونثراً، فهنيئاً له بجزاء ما أعطى، وهنيئاً لمسقط رأسه الولود له ولأمثاله من الموهوبين الواهبين، وهنيئاً لوطننا الأكبر بمن ينذرون أنفسهم لعزَّته وتقدُّم أهله.
الرياض