كثيراً ما نقرأ الإنتاج الأدبي المحلي ثم نحفظه زينة بمكتباتنا، لا نعيد قراءته لاستجلاء دقائقه، ولا نعيد رسم وتجسيد صوره البديعة التي تراءت لنا على صفحاته، ولا نسير بها خطوة للأمام نبرز فيها جماليات الإبداع مؤسسين لصناعة فنية توثق أحداثاً شكلت وساقت حياة مجتمع الجزيرة العربية إلى ما هي عليه الآن عبر عقود تتالت فيها أجيال صنعت تلك الأحداث وصنعتها تلك الأحداث.
لقد اعتاد الإعلام على إجراء جرد في نهاية كل سنة لأحداث تراكمت أثناء عام منصرم، واعتمدت المؤسسات التعليمية نظام المعدل التراكمي، إلا أنه قد غاب مثل ذلك المعيار في الإنتاج الأدبي. إنني لا أعني تناول ذلك العمل بالنقد ولا أعني إعطاءه رقم إيداع بمكتبة الملك فهد الوطنية، إن ما أعنيه هو استنباط المشاهد وإعادة رسمها وتلوينها وإنتاجها وإخراجها في عمل فني. مشاهد مثل تلك التي في رواية (بنات من الرياض).
في رواية «بنات من الرياض» أبدعت الكاتبة فايزة ابراهيم في تصوير جانب من حياة المجتمع السعودي المعاصر من خلال تجسيدها لشخصيات متباينة في روايتها المليئة بالأحداث الدرامية والتراجيدية والكوميدية. لا تملك إلا أن تتعاطف وتعجب وتدهش وتضحك وتبكي مع البنات من الرياض. مشاهد بديعة تفاعلت وانصهرت فيها تلك الشخصيات داخل بوتقة الأحداث منتجة معادن ثمينة براقة، مشاهد لا يحس بعبق رحيقها وجمالها إلا من كان غريباً عنها من أمثالي.
لا تتركنا فايزة نستقر على حال.. تنقلنا من البداوة الى الحضر.. ومن أدنى طبقات المجتمع إلى قمته.. من الكوميديا إلى التراجيديا.. من اليأس إلى التفاؤل..
مشهد انتقال عائلة نجلاء من القرية إلى الرياض.. خوف أمها على أبنائها من الانحراف.. سخرية زميلات نجلاء منها.. من ملبسها ولهجتها وسذاجتها.. قصص نجلاء لسارة. الصدمة الحضارية.. جفاء أهل المدن.. منظر جلوس والدة نجلاء في ساحة المنزل مع زوجة ابنها وأخت زوجها وأبواب المنزل مفتوحة.. منظر شباب الرياض المتطفل عليهن.
شخصية سارة التي لا تنام.. علاقتها الأسرية.. عنايتها ببنات أختها النائمة دوماً.. اختلاف مفردات الكلام بينها ونجلاء.. اندهاش سارة لقصص نجلاء.. زواج نجلاء وفسخ خطوبة سارة.. بسبب ما رأته من علاقة والديها.. وتحذير أختها لها من الرجال كلها مشاهد متداخلة تبنى لدراما سريعة الإيقاع.
مشاهد علاقة سارة بشروق القادمة من الشرقية.. بنت متهورة متفتحة طائشة مغامرة صبيانية ذكورية السلوك جميلة وجذابة معطاءة عفوية وبريئة !! مفرداتها (عربجية).. منظر شروق وهي في التوقيف.. علاقتها بالموقوفات من المنحرفات.. قيادتها للسيارة ومشاجراتها، دور سارة في نصحها نهاية العلاقة بينهما.. الخ.
مشهد لقاء سارة بنجلاء المفاجئ.. مفاجأة سارة بالنقلة الاجتماعية لنجلاء.. مشاهد شلة نجلاء وأحاديث مجالس الشلة.. المجوهرات، البورصة، المشاريع التجارية، التخطيط للسفر والمنتجعات.. قصة نجاح نجلاء.. توافق نجلاء وشروق في البراءة والبساطة وسلامة الفطرة. تأثير نجلاء على شروق ورغبة الأخيرة في التغير. المشاهد الدرامية والتراجيدية المتداخلة في حياة نوف.. تعلقها بزوج أمها - دهاؤها وحنكتها.. الحياة الرغدة التي عاشتها.. تدهور صحتها وانعزالها بسبب الصدمة في وفاة زوج أمها - ثم حياة الفراغ العاطفي والاجتماعي التي عاشتها.. لجوؤها للإنترنت والشات، عزوفها عن التعليم.. التغير الذي حدث لها عند زيارتها لدار المعوقين.. مشهد بكاء شروق ومها.. ومنظر كبرياء نوف الذي منعها من إظهار ضعفها.. بكت لوحدها بعيداً.. مشاهد علاقة شروق بأختها مها.. والحب الطائش عند الفتيات.. الهروب من مجابهة المشاكل وغياب من ينصح ويستمع لمشاكل البنات.. ضعف العلاقة بين أفراد الأسرة. مشاهد انتقال أسرة مشاعل من طبقة اجتماعية متواضعة إلى طبقة مجتمع الأغنياء الراقية.. سلوك الأم الاستهلاكي.. أعمال مشاعل التجارية.. حب المال.. وتقليد الأجانب.. الترفع عن الأهل والأصدقاء القدامى.. التنصل من الأصول.. تغير الأسماء لمواكبة الحداثة.. جزعاء غيرت أسمها لمشاعل.. الأم غيرت شكلها ومظهرها.. عمليات التجميل.. حب التسوق والمظاهر.. الامتناع عن السفر للديرة.. مطالب الأم لخطاب بنتها.. تعرف مشاعل على نجلاء ونوف ودخولها لشلة نجلاء.. عقود العمل والمشاركة المالية مع نجلاء.
مشهد اجتماعات ريما اللئيمة مع الشلة.. تحليلاتها النفسية المضرة تسببت في حالات طلاق.. وإنهاء العلاقة التجارية بين مشاعل و نجلاء وإبعادها من الشلة وإنهاء الصداقة بين أم مشاعل بأقرب صديقاتها.. دور سارة وشروق في كشف خبث ريم وإبعادها.. عودة العلاقات بين أفراد الشلة لمجاريها.
بعد أن تتداخل الأحداث وتتشابك المواقف تصل بنا فائزة لقمة الدراما والتراجيديا في مشهد مشاعل طريحة سرير المستشفى في غيوبة تامة بعد تناولها حبوب منومة.. يتخلل المشهد تعليقات شروق المضحكة المبكية.. توتر وقلق والد وأشقاء ووالدة مشاعل وأفراد الشلة عليها.. مشاعل تفجر قنبلة لصديقاتها أفراد الشلة.. يساندونها في الخروج من مأزقها العاطفي مع متعب الذي تزوج من أجنبية وأنجب منها بعد أن وعدها بالزواج.. مناظر ذكرياتها معه.. طوافها ليلا داخل الرياض ووضع معالم ذكرياتهما، وأخيرا تتزوج منه.. يسافران لشهر العسل لنفاجأ بتراجيدية مقتلة وكيف أوصلت مشاعل الخبر لأفراد الشلة.. ثم دخلت في غيبوبة طويلة.. عادت بعدها للرياض.. ثم تبدأ فايزة في إخراج شخصياتها من تلك الأنقاق التي زجتها فيها.
تعود العلاقة الأسرية بين شروق ومها وأمها علاقة حميمة بعد أن أصابت الأم أزمة قلبية ولزمت فراش المستشفى.. تغيرت نوف تغيرا جذريا بعد أداء العمرة حيث التقت فاطمة الإماراتية ونمت بينهما علاقة ودية قوية.. أكملت نوف دراستها الجامعية وتخلصت من كل ما هو مؤلم من ماضيها.. نجحت نجلاء نجاحا باهراً كسيدة أعمال.. مصطحبة معها مشاعل وشروق في ذلك النجاح.. تزوجت نوف من صديق زوج فاطمة.. تزوجت مها وسمت بناتها على أسماء أفراد الشلة.. كونت شلتها من المتزوجات.. كرست شروق حياتها لعملها وشقيقها (دودي).. برعت مشاعل في إدارة أسواق المال.. وبمساعدة نجلاء وسارة تخلصت مشاعل من معتقداتها في السحر والشعوذة والإيمان بالعين، سعدت نجلاء بتغير سلوك شقيقها الذي استقر في شمال المملكة مع عائلته.. أنجبت فاطمة الإماراتية ابنا سمته عبدالله على اسم والد نوف.. تغيرت حياة الجميع عدا سارة التي أصبحت بعد وفاة والدها وانتقال أمها لديرة أهلها ورجوع شقيقتها لزوجها مع بناتها، أصبحت تشعر بالفراغ وخواء الحياة من حولها.
هذه حبكة لرواية تنتظر من يخرجها فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً..
وفي كتاب (راشد المبارك.. ريادة في الفكر والثقافة) للكاتب الدكتور عبدالله القفاري مشاهد وثائقية لبعض صور الحياة الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية بالسعودية للقرن الماضي ومطلع هذا القرن الواحد والعشرين. الأحساء في مطلع القرن العشرين.. حياة وادعة.. مجتمع محافظ، علماء ورجال دين يحملون لواء التعليم، قضاة وفقهاء ينظمون علاقة البشر. تجار يجوبون الأمصار، صبية يمرحون ويتسلقون أشجار النخيل.. أطفال يولودون.. الخ.. مشهد بداية التعليم الحديث وطلائع الشباب المتعلم، مجموعة الشباب المبتعثين.. ومشهد عودة الكفاءات ومساهمتهم في الارتقاء بالمجتمع والتعليم العالي، مشهد بداية الحركة الثقافية في الرياض.. الديوانيات والمنتديات عشق المعرفة.. الشخصيات الوطنية والعالمية التي شاركت في ذلك النشاط.. المواضيع والقضايا التي طرحت، أتصور مشهد حروب المنطقة ودور تلك الطليعة المستنيرة في رأب الصدع.. رحلاتهم المكوكية مشهد الالتقاء بقادة المنطقة، ما دار من حديث مشاهد النجاحات والإخفاقات، ولو لا ضيق الحيز لعددت المشاهد.
شجعني على كتابة هذا المقال ما صرح به صاحب السمو الملكي الأمير الوليد بن طلال في جريدة الجزيرة (بتاريخ 10 ربيع الأول 1431هـ - الموافق 24 شباط (فبراير) 2010م بالعدد 13663 - السنة 50 ص 26) حين قال:
(نحن مستمرون في دعم السينما السعودية بإنتاج أفلام وتطويرها و الترويج لها في جميع دور العرض العربية والمحلية).. هذه دعوة للأدباء وكتاب السيناريو لالتقاط القفاز الذي رمى به الوليد، عسى أن نخرج من دائرة (طاش ما طاش) المغلقة، مع كثير اعتذاري.
أ.د. معتصم إبراهيم خليل
قسم الكيمياء - جامعة الملك سعود