في ليلةٍ جميلةٍ من ليالي (المنامة) كنتُ في جلسةٍ مع د.منذر عياشي والصديق العزيز الأستاذ خليفة بن عربي؛ نخوض في قضايا متعدّدة، أكثرُها له ارتباطٌ بالهمّ الأكاديمي، ولقد مررنا في واحدةٍ منها بالحركة الثقافية والأدبية في دول الخليج، فدعاني (ابنُ عربي) إلى الإفادةِ من الأستاذ محمد البنكي فيما يتعلق بهذه الجزئية، ولم أكنْ أعرفُ وقتها عن (البنكي) أكثرَ من كونه رئيساً لتحرير صحيفة الوطن البحرينية...
دفع إليّ الصديقُ رقمَ هاتفه الجوّال، فهاتفته، فإذا أنا أمامَ صوتٍ يتدفّق نضارةً وإشراقاً، وأمامَ دقةٍ علميةٍ تمتازُ بالصرامة، كان يتلقى سؤالي ويتعامل معه انطلاقاً من ثقافة عاليةٍ عاليةٍ، تخلق من السؤال الواحد أسئلة لا منتهى لها...
استمرّتْ الاتصالاتُ فيما بيننا، وقُدِّر لي أنْ أطّلعَ على بعضِ ما كتبه في الأدب والنقد، وما كتبه في قضايا اجتماعية وسياسية متعدّدة...، وأخذت بعضُ اتصالاتنا الهاتفية أبعاداً شخصيةً، أكّدتْ لي نبلَه وجلالَه وجمالَه...
(محمد البنكي) شابٌ من شباب البحرين، ولد في مرحلة صعبة من مراحل أمتنا العربية، وعاشَ يحمل بين جنبيه روحاً لا تخشى الموت، تجاوز الصعابَ التي تحيط – عادةً - بالشاب العربي، واستطاع أن يكونَ وسطاً بين الأحلام التي أحرقتْ أصحابها، والواقع الذي دمّر أصحابَه، وفيما بين الضحايا والضحايا، كان (البنكي) يقرأ ويكتب ويرصد ويعالج، متجاوزاً كلَّ شيء إلى كلِّ شيء، دون التفاتة إلى الوراء تغيّر مساره، أو تصعيد في السماء يجعله في غفلة عن حفر الطريق...
تخرّج في كلية الآداب، وعملَ في جامعة البحرين، وأنتج هناك عدداً لا يحصى من الأعمال، أدارَ بها حركةً ثقافيةً شائقة، ثم أخذه طموحه الراقي إلى تأسيس صحيفة الوطن بمعية زملاء وزميلات، يحملون أرواحاً تشبه روحه، وتطلعاتٍ تحاكي تطلّعاته .
في الصحيفة قدَّم (البنكي) دروساً في صناعة الوعي الثقافي، على مستوى الخبر، والتحقيق، والمقالة...، وقدم في قاعاتها وممرّاتها دروساً في الإدارة، والحوار، ومهارات الإقناع، وهو ما يشهد به زملاؤه وزميلاته... وفي غمرة النشاط الدائم اكتشف (البنكي) أنه مصابٌ بسرطان القولون (2007م)، ولأنه مرهفُ الحسِّ، قويُّ الملاحظة، فقد قرأ المصيبة في وجه طبيبه قبل أن يسمعها منه، وأحسّ في تلك اللحظة – كما يعبر – بما تعنيه كلمة البيان...
استعدّ (البنكي) لمواجهة المرض بكلِّ ما أوتي من قوّة، وابتدأها برحلة عائلية جميلة، التقطَ فيها مع زوجته وأولاده الأربعة صوراً جماعية، طرّزها بابتسامة صادقة تقولُ لهم: وداعاً...
وحين وجد (البنكي) نفسه أمام جداول مترعة بجلسات العلاج اتخذ قراره وترجّل عن جواده الأصيل الجميل (صحيفة الوطن)، وعهد إلى زملائه أن يكملوا المسيرة، وأن يتركوه يدافع عن جسده أمام غزو الأشعة والإبر... لقد اتخذ (البنكي) هذا القرار القاسي لأنه لم يردْ لصحيفته الجميلة أن تمرضَ لمرضه، ولا أن تموت بموته، ولم يمنعه الابتعادُ من المساندة برأي أو نصيحة أو دعاء، كما لم تمنعه مواعيد المراكز والمشافي من التفاعل مع الناس من حوله، ومشاركتهم لحظات التجلي والإخفاق، ولم يسجِّل عليه أحدٌ أنه أخلّ بعضوية في لجنة، ولا باستشارة في مركز...، ومع كثرة ارتباطاته، وتوليه لاحقاً منصبَ وكيل وزارة الثقافة والإعلام، ومع عضوياته التي لا يحيط بها راصد، وتفاعله مع عدد لا يحصى من الباحثين، كان (البنكي) قريباً قريباً من كلِّ أحد، ولقد كنت أصل إليه في دقائق معدودة، في حين أحتاج إلى أيام كي أصل إلى بعض أصحاب السعادة، رؤساء تحرير صحفنا الموقّرة .
كان أصحابه يزورونه؛ ليخفِّفوا عنه مصابه، لكنهم حين يغادرونه يغادرونه محمّلين بأرواح فوق أراوحهم، وطموحاتٍ فوق ما يحتملون...، صارع الخوف وحده بشجاعة نادرة في أبناء جيله، ووطأ آلامه بما تبقى من آماله، ولم تدمه المشارط ولا المباضع ولا الإبر ولا الأشعة، ولم تفتت عزيمته صراحة الأطباء معه...، بل لقد أدهشهم تماسكه حين وقف أمامهم كالنخلة، وجبر كسر فؤاده بالتوكل والدعاء، ثمّ خرج إلى الحياة كما يخرج إليها مواليدُ السعادة...
إنّ ما يميز (البنكي) عن غيره من مثقفي الوهم أنه جعل من الثقافة مشروعَ حياة يوم أنْ جعلوا منها مشاريع موتٍ ويأس...، أنه لم يجعل ذاته مركز نجاح، ولا جسراً وحيدا للعبور، كما فعلوا ويفعلون...، لقد كان يبتسم إذا أراد التعبير عن ألمه، ويصمت إذا أراد التحدث عن العقبات التي تحيط به، وفي الحالات كلِّها كان يزرع بيمناه إذا أعجزته الظروفُ عن الزراعة بكلتا يديه...
واعدته قبل أشهر، لكنني حين دخلتُ البحرين وهاتفته أجابني بصوت متعب حدّ النهاية، فما كان مني إلا أن قبلت عذره قبل أن يجود به، وحين سألني عن الموعد البديل، أجبته بأنه سيكون قريبا، ثم ودّعته وبودي أني لم أودِّعه ...
لم يمت (البنكي)؛ لأنه ترك خلفه جريدةً تصدر كلّ صباح، تذكّر من نسيه، وتنبه من غفل عن منجزه...
ولم يمت (البنكي)؛ لأنه زرع في حوض كلِّ واحدٍ منا شتلة من نور، وأملاً لا يجوع ولا يعرى...
ولم يمت (البنكي)؛ لأن خلفه زوجة قوية، قادرة – بمساندة أصدقائه وزملائه – على أن تحييه من جديد، بطباعة رسائله الخاصة، وسيرته مع الحبِّ والحرف والمرض، ومراجعة أوراقه النقدية ومقالاته ثم طباعتها لتكون في متناول الجميع، وما أظنُّ وزارة الثقافة والإعلام في البحرين بقيادة المتألقة دوماً الشيخة مي خليفة ستتقاعس عن المشاركة في مثل هذا العمل المهمّ، وكلنا على استعداد للمشاركة...رحمَ الله محمداً، فقد ابتسم في وجوه الناس طويلاً؛ ليبكيَهم كلّ هذا البكاء...
خالد بن أحمد الرفاعي - الرياض
Alrafai16@hotmail.com