إعداد - محمد المنيف
رغم كثافة أعداد التشكيليين العرب إلا أن هناك أسماء تبقى الأبرز والأكثر تداولاً ومتابعة واهتماماً من قبل الكتاب والنقاد وحتى من المقتنين للأعمال الفنية، هذا التميز لم يأتي من فراغ أو من علاقات بين هؤلاء الفنانين والإعلام أو قاعات عرض معينة بل جاءت نتاج قيمة إبداعهم وتفرد أساليبهم وملامسة ما يقدمونه من إبداعات لوجدان أصحاب الأقلام ومحللي الأعمال وقراء نصوصها البصرية واستلهامها في سطور مقالاتهم، ولو بحثنا من بين هؤلاء الفنانين المشاهير في عالمنا العربي لوجدنا أن جبر علوان ياتي في الخط الأول أو مقدمة يشار له بالبنان، فنان يعرف كيف يتعامل مع إبداعه ذو تكلف أو محاباة للمشاهد بقدر ما يستنطق الإعجاب من عيون مشاهديها ما يدفعهم لاقتنائها طوعاً وليس استجداء. الفنان جبر علوان يتنقل كالفراشة من مكان إلى آخر ومن قاعة عرض إلى أخرى ناثراً أريج ألوانه في كل مكان يمر به، مقل في إنتاجه ليس كسلاً أو انشغالاً في أمور غير عشقه الأبدي (اللوحة) وإنما بحثاً عن إجابات لأسئلة تحيط به بعد كل معرض، حوار وجداني وفكري يجعله يتوقف ليعيد ترتيب مصادر إلهامه ويحدد متى يلتقي باللون الأبيض في اللوحة ليسقط عليه عالمه السحري ألواناً وكتلاً، نراها ساكنة فتفاجئنا بالحراك ودغدغة المشاعر. تعرفت على الفنان جبر علوان من خلال أعماله التي بهرت زوار معارضه ثم التقيت به في زيارتي الأخيرة للأردن قبل أسابيع قليلة، فكان لي معه لحظات لم استطع أن أجمع فيها كل الأسئلة التي تتزاحم في ذاكرتي كلما شاهدت له لوحة أو قرأت عن معرض جديد له.
فنان بمعنى الكلمة
هذه العبارة التي يمكن أن أبدأ بها هذا الحديث عن الفنان جبر علوان (فنان بمعنى الكلمة) هكذا يقولها من يختصر الصفحات والمؤلفات وحتى سيناريوهات الأفلام لمن تجتمع فيه كل صفات الفنان الحقيقي خلقاً وتواضعاً وإبداعاً ومرحاً وشفافية رأياً ومصداقية وشهرة.. إلى آخر المنظومة.
جمعتني به الصدفة عند زيارتي لغاليري الأندى بالعاصمة الأردنية إحدى الغاليرهات والقاعات الكثيرة التي تستحق الزيارة والاطلاع على ما تحويه من إبداعات أردنية وعراقية إضافة إلى الأعمال الأخرى.
ففي العاصمة عمان نجد العديد منها مثال ذلك: غاليري السيدة نهى بطشون في فندق الأردن، وغاليري عالية التابع لشركة عالية، وغاليري توفيق السيد في رابطة التشكيليين الأردنيين، وغاليري رؤى والأورفلي والراوي، وبرودواي والمشرق ونبض والأندى التي لا يمكن لفنان تشكيلي يزور الأردن إلا ويجعل من أجندته موعداً معها كما هي بقية الغاليرهات، ولكننا اليوم ولكون لقائي مع الفنان جبر علوان كان بغاليري الأندى، التي لا يمكن أن أزور الأردن دون أن أعرج عليها وأحظى فيها باستقبال تعوده زوارها من السيدة مجدولين الغزاوي الغول صاحبة الغاليري ومديرته، بقهوتها التي لا تنسى برائحة عبير ربيع جبل اللويبدة وأزاهيره وبترحيبها العربي الأصيل الذي يشتهر به أبناء الأردن الشقيقة، كان جبر علوان يعد لمعرض بالقاعة وكان وقت زيارتنا يجلس على شرفة مطلة على الوادي المكتظ بالأشجار والمباني، مشهد يبعث في النفس كل محرضات الإبداع. تصافحنا وعرفته بنفسي وبعملي في جريدة الجزيرة فتذكر ما أبدعته أنامله في رسم الغلاف الأخير لعدد المجلة الثقافية بالجزيرة في عددها (273) التي تضمنت ملفاً عن الأديب الشاعر والوزير غازي القصيبي في عدد استثنائي للمجلة.
تأثر وتأثير
حينما يتحدث عن حياته يجعل لكل جزء منها حيزاً مبهراً يجمع فيه بين الظروف القاسية وبراءة العلاقات التي تجمع الناس بعضهم ببعض، تنقل بين دول العالم ابتداء من روما، كانت الجائزة التي حصل عليها في الصف الثاني الابتدائي القبس الذي أشعل في داخلة توهجاً لموهبته التي أوصلته إلى معهد الفنون الجميلة، لينطلق بعده إلى بوابة الفنون وإلى مرحلة الاكتشاف الحقيقي لإبداعه ولعالم الفنون، نهل فيها من تاريخ الفن إلى حد الارتواء. سألته عن ما يراه من تأثر الكثير من الفنانين بأسلوبه مما يؤكد تأسيسه لمدرسة أو نهج يحمل اسمه وينسب إليه. قال: لا يمكن لأي فنان حقق أسلوباً أو نهجاً إلا وقد مر بالأساليب الفنية العالمية وأنا واحد من هؤلاء الذين تأثروا بتلك المدارس ومررت بها إلى أن اتخذت لنفسي خطاً مغايراً مع أن ميولي للمدرسة التعبيرية الألمانية، التعبيرية يحقق رغبتي ويتوافق مع مشاعري. ها يعود بنا لتذكر هذا النهج الذي يقتلع به الفكرة من أعماق وجدانه ليتعامل مع اللون بعنفوان وقوة تتكئ على مختزل من الخبرات الطويلة، إذ يجد في اللون ما يتوافق مع طبيعة الفكرة تبدأ معه وتنتهي به إلى مرحلة الإمضاء بين القاتم والفاتح وبين الضوء والظلال تتبدل وتتغير كل الحالات لكنها تبقى ضمن سيطرته، لا يرى أن لوحاته مكتملة وهو ما يفسره بحقيقة العمل الصادق.
المرأة واللون الأحمر في لوحاته
سألته عن سر وجود المرأة في لوحاته فكانت الإجابة وصفاً لهذا الجزء من حياتنا أو نصفنا الآخر، إنه لا يمكن أن يفرط في هذا النصف فعلاقته بالمرأة كعلاقته بالوطن ابتداء من امرأة قال عنها يوماً أنها إيطالية قلبت كل مفاهيمه الشرقية في التعامل مع الحياة ووسعت رؤيته في كل مصادر الثقافة ومنها الأدب وفنونه، تزوج مرتين وأنجب فناناً الآن يشار إليه بالبنان في مجال النحت. وجد جبر علوان في المرأة ما يعوضه في غربته عن الحنين إلى الوطن، لهذا كانت ولا زالت في مقدمة مصادر إلهامه. يقول إن المرأة هي منطلق لأغلب لوحاتي، فهي حالة إبداعية تعبيرية، أشعر خلال تعاملي معها في اللوحة أنني أدافع عنها في كل السبل من خلال اللون وجمالياته.
كما أنها حجر الزاوية في بناء أي عمل تشكيلي، النحت والرسم بدءاً من زمن الإغريق إلى هذا الزمن الحديث، فالمرأة ملهمة للمبدعين تناولوها كرمز للجمال، أو رمزاً للوطن.
الفنان جبر علوان يتعامل مع اللوحة بروحانية يمزج فيها بين الفلسفة وبين رؤية الواقع على حقيقته، ويخرج في النهاية بإبداع تجلت فيه كل الألوان، تتفوق ألوانه في لوحاته على بعضها البعض حسب الموقف والمختزل، تشكل أحياناً انفعلاً وثورة تنبعث من داخله، تارة ينساق خلف اللون الأحمر وأحياناً إلى فضاءات الضوء بالأصفر والأبيض إلا أن اللون الأسود يمثل اللون الأساسي الذي تخرج منه كل تلك الألوان.
monif@hotmail.com