«1» أنفاس ُ التباشير
بلا شوائبَ.. بخفةٍ.. بهدوءٍ.. ولجَ غرفتي عبرَ النافذة.بلا خجلٍ.. مختالاً.. دغدغَ ملامحي الناعسةَ التي كانتْ تحتُ الغطاء.أشحتُ بوجهي العابسِ عنهُ، فانغرسَ في عينيّ المثقلتين عبرَ المرآة!.رمقتهُ.. عصافيرهُ تزقزقُ أحلامها مع وجههِ النقي.. البلابلُ تُرقَِّصُ كيانها ونسيمهُ الشفاف.. الفراشاتُ تغني بهجةََ بياضهِ الذي وشحَ الغرفةَ فتناهت به ترنيمةُ الليلِ الحالكةِ الكسولة.
إنه صبحٌ عرائسي.
تمتمتُ إليه: (أي صوتٍ أرسلَ إليكَ لترتلَ تراتيلَ الانبعاثِ وتُلقي بقصائدِ الحيوية؟..
لاشكَّ صوتُ أنفاسِ الفائزاتِ دوني؟.. إن كانَ كذلك، فاذهبْ.. فما عدتَ من يَسبحُ في كينونتي فيحيي من قعرها قمراً.. اذهب، مَنْ فتحَ لك الأستار؟.. أنتَ صباحُهم.. لا صباحي). حينئذٍ عزفتْ آلةُ توقيتِ الزمنِ نوتةَ الفرح، فلطمتُها بعنفٍ قائلةً لها:
(تباً لكِ.. من أتى بكِ إلى هنا؟.. ألا تذكرين أني رميتُ بكِ بعيداً.. فما عدتُ أتوق التيقظ في زمنٍ أحسبهُ يشي بضوءِ مشكاةٍ حالمةٍ، فتهديني الخيبات؟).
نهضتُ.. سريعاً، رميتُ بالساعةِ في الخزانةِ رافعة بطارياتها.. أسدلتُ ستائرَ النافذةِ الثخينة.. عدتُ إلى فراشي الدافئ.. مكومة غطائي على وجهي غالقة ً ما بقي من دروبٍ للضوء.. هامسةً بكلماتٍ ممطوطة: (أريد أن أنام).
إذا بصوتِ طرقٍ هادئٍ على البابِ ممزوجًا بصوتٍ موسيقي عاطفي.. صوتٌ ساكنٌ مريحٌ لم أعهدهُ من قبل.. ومع هذا تبرمتُ.. و صرختُ:
(كفّوا جميعاً.. أرجوكم.. هل تعاقدتُم اليومَ لإعادتي إلى أحلامٍ خنقتها في أسفلِ أودية القلب، بعد ربيعي الخامس ِ والثلاثين؟).
فُتحَ الباب.. دخلَ الطارقُ مصحوباً برائحةٍ نفاثةٍ للبخور.. تقدمَ إليّ بينما يزدادُ تبرمي.. همسَ في أذني بصوتٍ خفيضٍ حانٍ باسم:
- بنيتي.. أمازلتي نائمةً؟.. ألهذهِ الدرجةِ لم يوقظكِ الصوتُ الهادئُ لساعتكِ المحببةِ إليكِِ؟.. لقد وَقَّتُها لكِ، وأزحتُ أستارَ النافذةِ، بينما أنت غارقةً في نومٍ عميق.. ألم ينبهكِ ضوءُ الصبحِ الرائعِ كالعادةِ ويُلفتُ انتباهكِ بمافيه من فرح؟!..
وبمستوى هدوئها، أجبتها بهدوء، لكن من موسمِ اهتراءِ البيادرِ وعصفِ الخريف:
- أمي اتركيني.. فما عدتُ أحتاج إلى التلفع من بُردِ النصائحِ وسماع أساطيرِ الكلماتِ المهدئة.. لقد قتلتُ جماحَ الرغبةِ الأسمى وحُلمها.. ألا تريني منذُ أيامٍِ أستجيرُ منها بمشاطرتكِ جل أعمال البيت؟.. أستعيذُ منها بالبحثِ عن وظيفةٍ أو تعليمٍ ما؟.. استعين لقتلها بمساندةِ ومساعدةِ إخوتي في كلِّ مايحتاجونه؟.. أتركيني أتوسلكِ.. أحتاجُ مزيداً من النومِ في مثلِ هذه الجمعةِ فقط. لكنها عادتْ لربيعِ الهمسِ في أذني.. تضغطُ متني مازحةً.. تتفردُ بضحكتها كالشمس: لن أترككِ.. الكلُّ هناكَ ينتظركِ بنفادِ صبر، ولاسيما عريسُكِ.حينئذٍ.. بلا شعورٍِ.. أمامَ دهشةٍ تخامرُ أمي.. فززتُ بطاقةِ عشرينية.
«2» الدواء
الذي أسمتهُ أمهُ (ضحاكٌ) - وكأنها تنبأتْ بشخصيةِ ولدها في كبرهِ - أعتادَ الوقوفُ في نهايةِ الزقاقِ المختصرِ جداً لقريتنا القديمةِ ذاتِ المساحةِ الشاسعة.. الزقاق الذي تعبرُ منهُ امرأةٌ تئنُّ، فيئنُّ الرملُ المهترئُ تحتَ قدميها.. تتنهدُ، فتتنهدُ لها كلُّ الجدرانِ المتنوعةِ المكدودةِ التي غدتْ لها متكئاً آمناً.. تولولُ، فتولولُ المتعبة التي أمستْ عكازاً آخر لا يؤمنُ لهُ حينَ تتوكأ عليها زمنَ الانتقالِ من جهةٍ إلى جهةٍ أخرى.. بل التي أصبحتْ معظم عتباتِ البيوتِ بأشكالها المختلفةِ لجسدها السمينِ أريكةَ استراحةٍ، ومنبراً تتسنمهُا لتَرثي وتشكو فوقها حالها المنهكُ صحياً، وتنعى زمنها الذي فرضَ عليها تحملَ مشقةِ التنقلِ ماشيةً وهي في صحةٍ سيئةٍ.
ضحاكٌ الذي لا أعلمُ ما دفعني اليومَ للوقوفِ معهُ.. أشارَ إلى تلكَ المرأةِ المسنةِ، وقالَ لي: إنَّ تلكَ المرأةَ كلَّ يومٍ تعبرُ من هنا، ولاسيما وقتَ الغروبِ هذا، وهي على هذهِ الحال المؤلمة.. تأتي من بيتها إلى بيتِ ابنتها الوحيدةِ التي تأويها ليلاً منذُ ترملها.
رمقتُها بدقةٍ، فزفَّ حالها الوجعَ إلى قلبي، ورفرفتْ أجنحتي إلى البارئِ ترجوهُ تخفيفَ عنائها.
اقتربتْ المرأةُ منا.. فناداها بأمهِ، فسألته: أهي أمك؟.. فأجاب: لا.. بل أدعوها بذلك احتراماً لها، فتبسمَ وأردفَ: ومجاملة أيضاً. وبينما يرى الدهشةَ على وجهي، أكملَ كلامهُ قائلاً: لكني أعرفُ منْ هي، وابنها الكبير يدعى أحمد.. كذلك هي تعرفني. هززتُ رأسي ومططتُ شفتي: أممم.
نادها مكرراً: أم أحمد.. أم أحمد.وبعدَ أنْ أصدرتْ أناتٍ حارقةٍ من خلفِ غطاء وجهها السوداءَ الشفافة، وشعرتُ بأنها أدمتْ قلبي، أجابتْ باطمئنانٍ مستندةً الحائط َ الطيني الذي يشبهها: نعم، يا ولدي.
اقتربَ منها وقال: كيفَ صحتكِ؟. فأجابتْ بزفرةٍ كدتُ أرى لهيبها: آآآه.. لستُ على ما يرام ياولدي..إن رُكبتيَّ تخوناني.فإذا بهِ يقولُ بلا ترددٍ: عليكِ بعرقِ التكييف.
ها؟!!.. وماذا أفعلُ به؟. أجابتهَ بدهشةٍ، فبادرها بنبرةٍ مشوبة بالجديةِ خانقاً ضحكتهُ:
- هذا هو الدواء.. ادهني به ركبتيكِ ثلاثَ مراتٍ في اليوم، وبإذن الله، ستتعافيا.
حينئذٍ مستغرباً أخذتُ بيدهِ عنوةً بعيداً عنها، بينا يكررُ لها بصوتٍ عالٍ: (أقولُ لكِ.. عرقُ التكييف.. ثلاثُ مراتٍ في اليوم.. لاتنسي.. ها؟..).
أكملتْ العجوزُ طريقها وهي تتمتمُ بالترحمِ على والديه، بينا سألتهُ: أمجنونٌ أنتْ؟!.. ماذا تريدُ بالمرأة؟!!.. فإذا بهِ يقولُ بكلِّ جرأةٍ، غيرَ مبالٍ، وبكلماتٍ ممطوطةٍ ضاحكةٍ:
- يا أخي.. دعها تجلسُ في بيتها إلى الأبد.. لم أعد أحتملُ رؤيتها تمرُ كلَّ يومٍ من هنا وهي على هذه الحالِ المفجعة.
- كان بإمكانكَ أن تغيرَ مكانك.. لكنكَ بلا رحمة.. كم أنتَ غريب حين تدعوها بأمك؟.. لكن تعساً لي إنْ وقفتُ معكَ مرةً أخرى.
قلتُ لهُ هذا بألمٍ بالغٍ، فتركتهُ.. ومذ ذلكَ اليوم إلى أكثرِ من ثلثي شهرٍ ما حفزني شيءٌ لألتقي به.. رغمَ أن أمرَ تلكَ المرأةِ مازالَ عالقاً فاعلاً في قلبي وعقلي.
ولقد تساءلتُ: ترى ماذا حصل لها فأنا لم أرها تمرُّ من ذلكَ الزقاق مذ ذلكَ اليوم؟.. هل فقدتْ المشي نهائياً ؟.. فلم أجد أيةَ إجابة.. فعتبتُ على نفسي قائلاً: لِمَ لم أوضح لها الحقيقة في ذات الوقت؟.. ولِمَ لم أتعرف عليها جيداً لأسأل عنها وأتقصى أخبارها؟.
لم أهدأ، فدفعني ذلكَ إلى البحثِ عن (ضحاك).. وما أن رأيتُهُ، إلا ونشبتُ في رقبتهِ قائلاً:
- هيا أخبرني عن تلكَ المرأة؟
بينا يحاولُ فك قبضتي من ثوبهِ الذي رسم قسوتهُ فوقَ عنقهِ، قال دونَ أن ينسَ ضحكاته:
- أتركني ولا تنفعلْ كثيراً.. أين أنتَ خلالَ تلكَ المدة.. لقد بحثتُ عنك؟
تركته: لِمَ ؟.. ضحكَ مجدداً وبنحوٍ مبالغٍ، قال:
- أتصدقُ لو قلتُ لكَ بأن تلكَ العجوزَ، وبعدَ أسبوعين من وصفي لها العلاج الخاطئ، ذهبتْ إلى بيتنا وأعطتْ أمي هديهً قيمةً لي.
- لِمَ؟.. سبحان الله، فجأةً أصبحتْ صحتها كصحةِ الحصان!!.. وبعدَ دهشةٍ بالغةٍ وقشعريرةٍ هزتْ أركاني سألته:- إذن، لِمَ لم أرها تمرُّ من هنا كعادتها كما تقول ؟ ازدادتْ ضحكاتُهُ وقال: لقد استغلتْ طريقاً آخر أطول.