بدت الجامعة في الكتاب بوصفها قلعة التقاليد أو الأميرة النائمة، تقيم، كما يصور الأستاذ الدكتور، على أطراف البلد، ويعمل فيها أجانب. هذا الأمر أهلها - كما يرى الأستاذ - أن تكون معزولة عن المجتمع، كما أهل للقطيعة بينهما. وبناء على ذلك فقد تخلت الجامعة عن طرح «السؤال الثقافي والفكري التحديثي والتغييري في مجتمعنا» وهو ما يعني أن الأستاذ الدكتور يرى أن تكون ذات اتصال مباشر بسؤال المجتمع بمعنى أنها ذات صلة مباشرة بحركة التغيير في المجتمع، أو بمعنى آخر أن التغيير يقاد من داخل الجامعة لمن هم خارجها. إن هذا الموقف والفهم للجامعة يعطي الانطباع أن طرح السؤال الاجتماعي المباشر من لدن أساتذة الجامعة والعناية بحركة التغير الاجتماعي وبلورتها ومن ثم قيادتها لهو الدور الأساس الذي ينبغي أن يقوم به الأساتذة في الجامعة. وبناء على هذا جاء موقفه من حكاية الأستاذ والطالب في جامعة الملك سعود، والذي إن لم يبد منه الوقوف ضد الأستاذ، منحازاً إلى تصور الطالب. ولعل هذا الموقف من الجامعة لدى الأستاذ الدكتور هو الذي يفسر لنا طبيعة اختيار الكاتب الكبير لمسيرته الفكرية والثقافية في المملكة كما بدت في حكاية الحداثة. السؤال هنا إذا افترضنا أن رؤية جيل الدكتور الغذامي تختلف عن رؤية جيل الدكتور الضبيب وأن كل واحد من هؤلاء الأجيال عبر عن وجهة نظره في موقف الجامعة من الفعل الاجتماعي بوجهه الثقافي (الثقا-اجتماعي) وطبقه في مسيرته العلمية والعملية، فأي الرؤيتين أقرب إلى طبيعة عمل الجامعة والمسئولية المنوطة بها؟ ألا يكفي أن يكون ما يقوم به الأستاذ داخل الجامعة من نقد لها كافياً في تطوير الجامعة لأن ينعكس هذا فيما بعد على المجتمع نفسه. الأستاذ الدكتور يرى أن انحصار عمل الأستاذ في الجامعة الذي سينعكس إيجاباً على المجتمع صحيح ولكنه يرى أنه بطيء. والمشكلة الآن وصف هذا البطيء. هل الإصلاح المرجو سيكون في وقت سريع، الإصلاح الاجتماعي المتين القائم على التعليم ونشر الوعي الفكري وليس القائم على العواطف أو بقوة السلاح؟ هل يمكن أن يكون بمدة محدودة؟ السؤال هنا عن طبيعة التغيير الذي يريد أن يحدثه الأستاذ الدكتور في المجتمع، أهو التغيير الإيجابي المتدرج في المرحلة أم هي الثورة والطفرة السريعة في القيم؟ بمعنى هل هو التحول السريع أو التحول المنهجي المدروس؟
فرق الكاتب بين المثقف والأستاذ الجامعي، وذلك في الفقرة الثانية من حديثه عن الجامعة، والذي ذكر فيه أن الجامعة هي معقل المحافظة، وكأنه يستدرك على ما جاء في الفقرة السابقة لها، ولكن السؤال يظل مفتوحاً عن طريقة التغيير الذي ينبغي أن تقوم به الجامعة، أهو تغيير مباشر بأن يقود أساتذة الجامعة التغيير في المجتمع أم هو تغيير يتم عن طريق غير مباشر من خلال إمداد المجتمع بالكوادر المدربة، والمساهمة من قبل الجامعة بتقديم الدراسات والحلول لبعض المشكلات في المجتمع دون أن يقود الأستاذ الجامعي بوصفه زعيماً اجتماعياً عمليات التغيير في المجتمع؛ لأن هناك سؤالاً آخر مبنياً على هذه الرؤية، و هو النظر في الجامعة هل هي مؤسسة سياسية أم علمية تقوم بدور سياسي؟
سآخذ قضية الحداثة التي هي موضوع الكتاب نموذجاً للدرس والتأمل، فمن المعلوم أن قضية الحداثة لم ينظر إليها بوصفها ظاهرة فلسفية فكرية أنتجت ظواهر في الأدب، والمعمار، والفن، وإنما قضية ملأت قاعات الدرس وأماكن التجمعات الاجتماعية بالحديث عنها بوصفها قضية اجتماعية ذات أبعاد فكرية دون الحديث عن مكونات الحداثة نفسها. في قاعات الدرس، سواء كانت مع الحداثة أم ضدها. وهنا يأتي السؤال عن فائدة الحديث ومعناه في قاعات الدرس عن قضية لا يجد الطلاب حين يخرجون الكتب التي تساعدهم في تحديد موقف موضوعي مما يسمعون، سواء في قاعات الدرس أو حتى في خطب المساجد ودعوات القانتين في رمضان؟ إن هذا الأمر، سواء كان في النفي أم في الإيجاب، في التشجيع أم في التحذير من الحداثة دون التوجه إلى الحديث عن المذاهب النقدية التي تمثلها، وتوفير الكتب التي تمثل هذا الاتجاه النقدي ورؤاه الفلسفية يعني أن يتحول الناس إلى قسمين قسم مع ما يسمى (بالحداثة) وآخر ضدها، والذي معها ليس لأنه يفهمها وإنما لأنه يحب الذين يرفعون شعارها والذين ضدها أيضا هم ضدها لأنهم يحبون من يقف ضدها ويؤمنون بقيادتها. هنا تتحول المسألة إلى عملية سياسية هناك قادة في كلا الطرفين يملكون قواعد اللعبة في حين هناك آخرون ليس لهم إلا أن يختاروا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً. وهنا يأتي السؤال مرة أخرى من المسئول عن نقل معركة الحداثة من قضية علمية تدرس في الجامعات وقاعات الدرس بالطرق الأكاديمية المعروفة التي تقوم على الاعتماد على المصادر الأصلية وتوضيح المفهومات ثم تناولها بعد ذلك بالدرس والتحليل بجوانبها المختلفة؛ لأن تصبح قضية اجتماعية يتدخل الجميع بالحديث فيها ومناقشتها، حتى ولو كان فلاحاً يريد أن يصلي الجمعة ويعود إلى مزرعته ليتحقق أن الرشاش المحوري لم ينكسر فيموت زرعه ولا يستطيع أن يسلم المحصول إلى صوامع الغلال في هذا العام. سأطرح السؤال بصورة أخرى، لو أن قضية الحداثة لم تكن قضية سياسية اجتماعية وكانت محصورة في الجامعات، كما فعلت الأجيال الأولى من الأكاديميين، أترانا سنخرج بهذه الحصيلة من المشكلات الثقافية والاجتماعية التي نعاني منها الآن، والتي تتمثل أكبر ما تتمثل بالانشطار الثقافي والاجتماعي؟ ألا يمكن القول إن طرح قضية الحداثة بتلك الحدة وتجييش المؤسسات والمثقفين مع أو ضد، ألا يمكن القول: إن طرحها بتلك الصورة أنتج حركة مضادة من التطرف الديني، جعلت الإنسان السعودي المعاصر يخاف على هويته، يظن هذا الطرح طرح بعض الصحفيين الهواة المتعجلين «أفراخ الغرب» المشكوك في ولائهم وانتمائهم لهويتهم؟ مما جعلهم يفزعون إلى الدين؟ أو بصورة أخرى ألم تكن الحداثة السعودية والطريقة التي طرحت فيه ألم تكن أداة لإثارة المتشددين دينياً، ودفعهم لإبراز ذلك الشعور والخوف عليه، وظهور ما يمكن أن يسمى ب»فوبيا الحداثة»؟
هذه القضية التي مثلت هاجساً للمجتمع السعودي في مرحلة من المراحل، أعادت طرح السؤال عن العلاقة بين المجتمع والجامعة، وبين المثقف والمجتمع؛ من يقود من ومن يؤثر بمن؟ قد يكون الجواب الطبيعي أن العلاقة بينهما علاقة تأثر وتأثير، فالجامعة المتقدمة مركز الإشعاع العلمي والحضاري لا يمكن أن تكون قلعة صماء لا تستجيب لظروف المجتمع وأحواله المحيط بها، ولكننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نتصور أن الجامعة ستخضع في مناهجها وطرائق تدريسها لرؤية المجتمع من خارجها، ومواقفه منها؛ لأنها ببساطة ستفقد القدرة على العمل بوصفها رائدة للمجتمع، تلك الريادة التي سبق الحديث عنها، وقادرة على أن تقوم بدورها في الإشعاع.
ومثل هذا الكلام يقال أيضاً في حق المثقف، ففي مرحلة «فوبيا الحداثة»، كان المثقفون والراسخون في العلم على اختلاف توجهاتهم يعانون مما يمكن أن يسمى بالاضطهاد المعرفي والاجتماعي من قبل أناس ليس لهم مسيرة في العلم أو تاريخ، وكأن المقصود أن يتخلى المثقف عن قول ما يراه، ويعتقده حتى ولو خالف المجتمع؛ لأن يتحول من رائد في النقد والتنوير إلى مردد؛ لما يدور في بعض المجالس؛ مما هو من مسلمات العلم أو بدهيات المعرفة، إن تلك الظاهرة تخلخل التوازنات الاجتماعية، كما تصيب جوانبه بالتداخل، وما ذاك إلا بسبب تداخل العلمي بالسياسي، وعدم الوعي بأهمية الفصل بين هذه الحقول المختلفة.
إن الأستاذ الدكتور حين يتحدث عن موقفه من المثقف ودوره في المجتمع وموقف الجامعة يؤكد أن ما قام به في حكاية الحداثة كان موقفاً مدروساً، وقد قام به عن رؤية واعية لإثارة الرأي العام وجعل الحداثة قضية اجتماعية وليست قضية علمية أكاديمية. وكان من الطبيعي أنه حين تتحول الحداثة إلى قضية اجتماعية بوصفها منظومة قيمية وفلسفية أن تثير الهلع والرعب في قلوب أبناء المجتمع الغيورين على الهوية والأنا والقيم الاجتماعية السائدة حيث إن الناس لا يعلمون ما يؤخذ من الحداثة وما يدع في ظل هذه الضبابية في الرؤية والتصور ليس في الحداثة نفسها وإنما لدى الداعين إليها في المملكة وخاصة الدكتور الغذامي كما يبدو من حديثه في الكتاب نفسه عن الحداثة.
وبعد، فأظن المرحلة التي يمثل الكتاب أحد الشهود عليها لا تزال بحاجة إلى كتابات كثيرة، كما أن الكتاب نفسه يستحق أيضاً أن يكتب عنه نظراً لما أثاره من قضايا، وتناوله من تصورات، أتمنى أن تلقى اهتماماً من الباحثين.
* الرياض