الصراع بين الأنواع الأدبية، أو بينها وبين العلوم الطبيعية هو في الحقيقة جزء من صراع شامل بين البشر وحول أشياء ومواضيع كثيرة منها هذا، لذلك فإن الذين يتحدثون مثلاً عن الصراع بين الرواية والشعر هم في الحقيقة يتحدثون عن الصراع بين الشاعر والروائي.
وفي أوربا وفي أوائل القرن التاسع عشر الذي هو قرن التطور الصناعي والتكنولوجي حاول الكثير من رواد مبدأ المنفعة ومعهم أصحاب العلوم التطبيقية أن يوجهوا العامة بأن عصر الشعر قد انتهى لأن تهويماته لاتقدم في زمن اللغة الصناعية شيئا، وقد دافع الشعراء الرومانسيون آنذاك عن دولتهم الشعرية بتفان، فقال (وردزورث): (Wordsworth) أن الشعر هو روح المعرفة الشفيفة والتعبير العاطفي المرسم على وجه كل العلوم وقال (شلي) Shelly: (إن الشعر شيء إلهي، إنه مركز المعرفة ومحيطها، إنه ذاك الذي يشتمل على العلم كله، والذي يرد إليه كل العلم، إنه في الوقت ذاته جذر الفكر وبرعمه)، وقد بلغت المواجهة ذروتها منتصف القرن بين العالم التطوري توماس هكسلي Thomas Huxley وبين الشاعر (ماثيو أرنولد).
واستمرت المواجهة خلال القرن العشرين الميلادي الذي شهد أهم معركة في هذا الصدد بين العالم الانجليزي (س.ب - سنو) C.P.Snow، والناقد الأدبي (ف. رز ليفز F.R.Leavis، وقد اتخذ دفاع ليفز خطاً تصاعدياً إلى أن وصل إلى أوج ردوده العنيفة في كتابه (لن أضع سيفي)، دفاعاً عن دولة الأدب في عصر التكنولوجيا.
وتبعاً لهذا فقد بدأ الحديث منذ عقود ولم ينته عن التفاضل بين الأنواع الأدبية، وذهب بعضهم إلى أن الرواية ورغم ظهورها المتأخر إلا أنها استطاعت أن تزيح الشعر عن عرشه، وتتربع هي مكانه على مقولة (ديوان العرب)، رغم أن العرب لم يكونوا بعد ظهور الرواية، وأن وجودهم سبق وجودها بأحقاب ولذلك لايمكن أن تكون ديواناً لهم.
ومحاولة انتزاع هذه الصفة من الشعر أثار حفيظة الكثير من الشعراء فهبوا للدفاع عن حياض فنهم، وجرت في هذا المجال معارك أدبية عنيفة شهدتها الساحة الثقافية، وإلى اليوم مازال الحديث جارياً عن ذبول زهرة الشعر أم الانتعاش الكبير الذي تشهده نبتة الرواية رغم حداثة سنها.
والحقيقة أن مناقشة الموضوع مناقشة علمية لايمكن أن تتم بعيداً عن إدراك، أو الإلمام بإرهاصات أو مولدات هذا الصراع.
ويجب أن نقدر بدءا أن المناقشات المحتدمة التي تجري في الوطن العربي وبين المثقفين العرب في هذا المجال إنما هي مجرد ظلال أو أصداء لمناقشات سبقتها في الغرب.
إن من المسلمات عند الفريقين أن الشعر قديم، وأن الرواية حادثة، رغم أنه لا توجد إجابة دقيقة حول بداية ظهور الرواية، فبعضهم يوغل في صنع المرجعية فيرى أن (سنوحي) العمل القصصي الفرعوني يمكن أن يكون رواية، وأن (حي بن يقظان) لابن طفيل أيضاً عمل روائي، وقد جرت مقارنته برواية (روبنسون كروزو)، غير أن الحقيقة أن الرواية وليدة عصر النهضة في أوربا، ولعل أهم صور نضجها كان في إسبانيا بظهور رواية (دون كيخوته).
ولقد ظلت الرواية نوعاً مزدرى وغير معترف به أدبيا إلى أن جاء (سير وولزسكوت) في اسكتلندا، وبعده (أونوريه دي بلزاك)، فرفعا من شأنها.
وقد بدأت أولى الملاحظات حول هيمنة الرواية على الشعر انطلاقاً من تحول كبار الشعراء إلى كتابة الرواية، وهو الأمر الذي يصوره الكثيرون على أنه جاء نتيجة ضيق فضاءات العبارة الشعرية عن استيعاب الرؤى الإنسانية الواسعة للشعراء، وذلك خطأ، لأن الشعراء آنذاك لم يتركوا كتابة الشعر، ولا هجروه نهائيا مستعيضين عنه بالرواية.
فغوتيه، كتب رواية (فلهلم مايستر) وبوشكين كتب (يفغيني أونيغين) وهوغو كتب روايات خالدة، غير أن هؤلاء وغيرهم ظلوا شعراء إلى أخر يوم من حياتهم.
إن الكثير من مروجي الفكرة القائلة إن خانة الصدارة لاتتسع إلا لنوع أدبي واحد، قد يكون الشعر، وقد يكون الرواية، وقد يكون غيرهما يحاولون علمنة هذا الرأي بتبريرات تمايزية بين هذه الأنواع، من ذلك أنهم يرون أن الرواية استطاعت أن تحد من انتشار وصدارة الشعر لكونها تتصف (بحيوية الاستجابة)، وهي لذلك لا تتعرض للانكسارات أو الإحباطات التي يتعرض لها الشعر، وبذلك فهي قادرة على امتصاص النكسة واستيعابها، يساعدها في ذلك أنها عمل بطيء لايخضع للخطة النفسية كما هو الشأن بالنسبة للشاعر، وآنذاك فعند الصدمة يكتب الشاعر قصيدته كلها، لكن الروائي لايستطيع أن يكتب روايته كلها، بل يضع لها البداية والانطلاق، ومن ثم فإن الشعر محكوم بأحاسيس وأجواء وانهيارات الصدمة، لكن الراوي قد يحكم بذلك في بداية عمله، لكنه بعد ذلك بشهر أو عام سيكتب فصلاً آخر بعيداً عن ظلال الصدمة، بذلك تكون الرواية امتصاصية للحدث بينما الشعر (عاكس) أو مستوعب في الحدث ولحظته، وهذا أمر أوجد هيمنة الرواية على الشعر، لكن هذا التفسير قاصر وهو يخفي وراء مرجعيات أكبر وأوسع وأخطر والقضية بكلها راجعة إلى معنى ومفهوم التطور في التاريخ الأدبي، إن هذا التطور هو الذي جعل بعضهم يقول: إن أحمد شوقي قد وصل في مرحلة ما إلى قناعة أن شعره آيل إلى نهاية بئيسة، لذلك فقد أنقذ أمام التحدثيات الشعرية الشكلية والأسلوبية بصياغة القصائد القصصية مثل (كليوباترا) وقصائد (الحيوان) وغيرها.
وتعود فكرة التنازع أو الصراع بين الأنواع الأدبية إلى نظرية التطور التي كتب حولها أرسطو الكثير في كتابه (البويطيق)، والذي يرى فيه أن أصل التراجيديا يعود إلى شعر الشرامب، وأن أصل الكوميديا يعود إلى الأغاني التي تدور حول الذكر، يقول أرسطو: (تطورت التراجيديا شيئاًً فشيئاً منذ أقدم أشكالها عن طريق الإضافات التي بدا للكتاب أن يضيفوها، ثم توقفت التراجيديا عن التغير بعد أن مرت بتحويرات كثيرة، وذلك حين اكتمل نموها. (1)
وبالنسبة لبعضهم فإن الرواية استطاعت أن تفرض واقع الهيمنة على الشعر القديم شكلاً، وهو الأمر الذي استدعى ظهور القوالب والأشكال الشعرية الحديثة غير أن في هذا مغالطة كبرى، وهي أن الرواية ذات شكل واحد لم يتغير منذ ظهورها، فهل هذا يعني أنها غير قادرة على التحديث بالخروج من هذا الشكل، وهو ما يعني عدم قدرتها على المنافسة الآن أو مستقبلاً؟.
إن اعتبار التطور الشكلي أدبياً أمر يبدو متأثراً بالنظرية الداروينية.
من هذه النظرية ينطلق الإخوان غرم، ليقولا: إن الماضي السحيق قد شهد مجد الشعر الطبيعي، وأن الشعر الحديث المتفنن فيه ليس إلا أنقاضه البالية.
والظاهر أن أصحاب هذه المدرسة يطبقون على الأنواع الأدبية نظرية التشبيه البيولوجية وهو الأمر الذي فعله (جون أدنغتن سمندر في دراسته لتاريخ الدراما الأليزابتييه (1884) وقال: إن (الدراما الإليزابتيية خط واضح المعالم قوامة الولادة، فالتوسع، فالازدهار، فالذبول). (2)
ولم تستطع نظرية تطور الأدب الخروج من رتبة النظرية الداروينية في التطور، ويظهر ذلك جلياً في كتابات (رتشارد غرين مولتن) و(هـ.م. يوزنت) و(ف. غمير) و(أ. سمنكزي) وغيرهم.
غير أن أصحاب المدرسة الداروينية لم يكونوا وحدهم في الميدان، فقد كان معهم وبتفاسير أخرى للتطور أتباع النظرية الهغلية (الذين ينظرون إلى الحقب التاريخية على أنها لحظات، ومن هؤلاء (تين) الفرنسي، الذي كان يقارن بين التراجيديا الفرنسية في عهد كورني وعهد فولتير، وبين المسرح اليوناني بين عهدي اسخيلوس ويوريبيدس، وبين الشعر اللاتيني وعهدي لوكريشيوس وكلوزيان.
وتقوم نظرية الهغليين على المفاضلة بين العهود، لا بين الأجناس الأدبية.
ويظهر فساد النظرية الداروينية والتي تعكس ظلالها اليوم على النقاش المحتدم في المنتديات الأدبية العربية في نقاط عدة، أهمها أن أصحاب هذه النظرية ينظرون إلى الأنواع الأدبية تماماً كما ينظرون إلى الحيوانات في الغابة، الحيتان في البحر، وقد استخدم (يرونيتيسر) في تواريخه للأنواع الأدبية فكرة (الصراع من أجل البقاء) لكي يصف هذه الأنواع، وقال: إن بعض الأنواع تتحول إلى أنواع أخرى.
غير أن هذه النظرية باطلة لكونها تجعل الظرف المكاني غير قادر على استيعاب نوعين مختلفين، وآنذاك فلابد من بقاء أحدهما واندثار الآخر، والمجتمع في مرحلة ما إما أن يقبل الرواية أو الشعر.
ويظهر فساد هذه النظرية أن مجتمع الفقراء ليس هو الغابة، فللشعر قراؤه وللرواية قراؤها ثم إن الجمع بين قراءة الرواية وقراءة الشعر أمر ليس مستحيلاً، بل إن كتابة النوعين أمر موجود، ود أعطينا أمثلة لذلك بغوتيه، وبوشكين، وهيغو، وآنذاك فالحيز المكاني يمكن أن يستوعب نوعين إما بتميز أنصار وقراء كل نوع، بحيث يكون للشعر أنصاره وللرواية أنصارها، وإما بتداخلهما بحيث يكون قراء وأنصار الشعر هم قراء وأنصار الرواية.
لذلك يقول رينيه ويليك: (إن النظرية الداروينية أو السبنسرية نظرية فاسدة في تطبيقها على الأدب، لأن الأدب لا يضم أنواعاً ثابتة شبيهة بالأنواع البيولوجية التي تشكل الطبقات التحتية للتطور وليس هناك نمو وانقراض حتميان، ولا تحول من نوع إلى نوع، ولا صراع حقيقي من أجل البقاء بين الأنواع. (3)
إن بعضهم يرى أن الشعر، وفي سبيل المحافظة على عرشه لجأ إلى تجديد نفسه في الشكل الحديث الذي هو قصيدة النثر التي لاتخضع لوزن ولا لقافية، وذلك خطأ فادح.
وأصحاب هذا القول من الأدباء العرب لم يستطيعوا تأسيس نظريتهم على النظرية الداروينية ولا السبنسرية لأن التطور معناه وجود شكل بدل شكل آخر مندثر لوجود ذاته، وآنذاك فهو يستدعي انعدام الشكل الأول لأنه تطور إلى شكل ثان، وهذا ما لم يحدث بالنسبة للشعر، فالشكل القديم المقفى الموزون لم يبرح مكانه رغم ميلاد قصيدة النثر، وهو ما يدل على أن هذا النوع الجديد إنما هو حادث مستقل لا علاقة له بتطور القديم.
إن لازم القول بأن الرواية قد أضعفت دور الشعر، أو إزاحته هو أن الكمبيوتر أزاح الكتاب والجريدة، وأن العلوم السياسية أزاحت التاريخ، وأن علوم المعلوماتية قد أزاحت الرواية، وهكذا...
وهذا القول فيه الكثير من الخلط والخطأ، فكل نوع مجاله واستعمالاته، والحياة لاتكتمل إلا بكل هذه الأنواع..
لقد كانت الرواية في مرحلة ما نقيصة لا يجرؤ الكاتب على خوضها، ومثال ذلك أن محمد حسنين هيكل نشر روايته (زينب) في طبعتها الاولى سنة 1913 ببدل لاسمه، وهو اسم (مصري فلاح) بينما ظل، الشعر لقرون، ومن زمن الجاهلية ذلك الشيء الذي ينظر إليه على أنه فوق طاقة وإمكان وإبداع البشر العاديين، فهو نوع من الوحي والإلهام، وهو ما يخرجه عن معنى (الصنعة) التي تخضع لها الرواية، إن تسمية الرواية بأنها (ديوان العرب) معناه إلغاء الامتداد الزمني الظرفي لوجود العرب، والرواية كما أسلفنا لم تكن موجودة قبل عصر النهضة الأوربي، لذلك فإنها لايمكن أن تكون ديواناً لأمة ضاربة في القدم.
إن الفرق بين الرواية والشعر يكمن في كون الشعر يعد رصداً وتسجيلاً للحظة الاستثنائية لحظة الفرح الغامر أو الحزن العميق، أو غير ذلك، وقد تكون هذه اللحظة خاصة بالشاعر، وقد تكون عامة، وبقدر ما عمت هذه اللحظة أو الحدث بقدر ما كان صدى القصيدة أكبر وأقوى ووأسع، أما الرواية فإنها لا تحتاج إلى حدث تنطلق منه، فهي قد تخلق الحدث (تتخيله)، وعمر كتابتها الطويل لا يسمح لها بمواكبة أو التعبير عن اللحظة الاستثنائية، لحظة الموت، الميلاد، النصر، الكارثة، لذلك فهي تولد في ظروف عادية غير استثنائية، وهو الأمر الذي يجعلها تستهلك أيضاً في الظروف العادية، أما الشعر فإنه يتلازم كما يقال مع زمن (النبوءات)، زمن الأحداث العظيمة الساخنة المتفجرة وغير العادية، ففي زمن الانتفاضة مثلاً، وفي تدوين لحظة موت طفل فلسطيني أعزل برصاص إسرائيلي، يكون للقصيدة الميدان الأوسع فهي تواكب اللحظة وتمتد بها حو مآلات خيالية رائعة مما يحولها إلى الصب في مصب النضال.
في تلك اللحظة وما تحتاج إليه من التغني بالتضحية، أو بعث الحماس والتثبيت في الأوساط تعجز الرواية أن تكون موجودة، صحيح أنها قد تنطلق من ذلك الحدث، لكن صدورها لن يكون متلازماً مع اللحظة الحدث، وهو ما يجعلها بعيدة عن الأجواء الخارجية، الرواية لها جوها الخاص الذي تصنعه وتدخل القارئ فيه تدخله إلى جو الحرب، أو الحب، إلى جو الصراع، أو الأمن، الحزن أو السعادة، أما الشعر فإنه يمتزج في جوه العام بالجو المحيط، الجو الخارجي في الوسط الذي ينطلق منه، وبذلك فهو تسجيل آني وسريع للحظة الخاطفة، وبذلك فقد استطاع أن يكون (ديوان العرب) لأنه كان المؤرخ لأحداثهم، والمسجل لتفاصيل حياتهم، سكنهم، ملبسهم، أماكن وجودهم.
إن هذا التسجيل قد جعل الكثيرين يرون أن التاريخ للعرب لا يمكن أن يكون بدون الرجوع إلى الشعر، بل إن ضبط اللغة كان يحتاج إلى شواهد قديمة من الشعر، وبذلك فإن الشعر بما وفره من عناصر إبداعية وفر للرواية الجو الذي ولدت فيه، وقد حاولت الرواية أن تبتعد عن المدار الخيالي للشعر، فادعى أصحابها أنها أكثر واقعية، وهو ما حول الناقد (وين - س - بوث) تأكيده منذ عقود، ليميز بينها وبين الشعر، غير أن الرياح هبت بغير ما يشتهيه هو وأنصار رؤيته، حين ظهرت الرواية (الأفيولية) على مسرح الأحداث بقوة، وفرضت نفسها تحت اسم (الواقعية السحرية) التي نال أحد رموزها وهو (جابرييل غارسيا ماركيز) جائزة نوبل، بل إنها أصبحت الأكثر رواجاً بين القراء، وطلبا من طرف دور النشر.
غير أن هذه الأفيولية لم تقتل الرواية الواقعية كلية، والدليل على ذلك أن (الملهاة الإنسانية) لبلزاك، وهو قطب الواقعية الروائية، بقيت إلى اليوم في مكانتها المرموقة، بل إن هذه الواقعية البلزاكية قد كانت أضافت إلى بعدها التاريخي معانقة للسوسيولوجيا والعلم والسياسة، وقد أنجبت عدداً من المدارس الواقعية الأخرى.
وهذا التوالد في الرواية هو توالد مجهول التوجهات الكمالية، فقد تكون الصورة المثلى للرواية هي صورتها الأولى عند ظهورها، وقد يكون العكس، إذ تبقى الرواية بتوالدها تبحث عن الصورة الأفضل حتى تبلغها ذات يوم، أما بالنسبة للشعر فليس الأمر كذلك، الشعر له صورته الثابتة وقالبه الراسخ، تلك الصورة التي توارثتها الأجيال قروناً بعد قرون، والتي تخضع لميزان دقيق، كتب فيه علماء (العروض والقوافي) الكثير بحيث أصبح الشعر علماً منضبط القالب، ويعد الخروج عن هذا القالب خروجاً عن الانضباط، وبالنسبة للرواية ليس هناك ميزان ضابط، سوى الذوق، والذوق متغير من زمن إلى زمن ومن مجتمع إلى مجتمع، وهو ما يجعلنا نقول: إن الرواية تنزل إلى ذوق المجتمع، أما الشعر فيرفع المجتمع إلى صورته، ولئن كان بإمكان الجميع قراءة ذوق سلس دون وجود عقبات انضباط، فإنه ليس بإمكان هذا الجميع أن يقرأ شعراً منضبطاً مؤطراً ومقنناً، وزنا وقافية، وهذا ما يجعل الشعر أنجح إلقاءً، لذلك تجد الإنسان العادي الذي لا يفكر في قراءة قصيدة يستمتع كثيراً بحضور أمسية لشاعر حسن الأداء، لذلك فإن أقوى وسيلة لإيصال الشعر إلى الجمهور هي (الصوت)، أما الكتابة فهي مستهلك النخبة، بعكس الرواية التي هي في متناول الجميع.
ومن شك في هذا الكلام، فليكتب رواية بصورتين، الصورة العادية للرواية، والصورة الثانية شعراً، وسيرى أن الذي سيروج هو الصورة العادية، رغم أن الأحداث والأبطال، والوقائع هي ذاتها في الصورتين.
وحين تظهر هذه المفارقات يصير من السهولة إدراك أن الرواية لايمكن أبداً وبأي حال من الأحوال أن تكون (ديوان العرب)، تماماً كما لا يمكن أن يكون الشعر رواية بالمعنى النثري للرواية، ولكل مجاله ونوعه.
ولقد أخطأ الذين راهنوا على أن البنادق القديمة ستزول مع دخول النووي مجال التسلح، وإلى اليوم مازالت البنادق تستعمل سلاحاً، بل أكثر من ذلك مازالت الحجارة وهي الأقدم في تاريخ الإنسان تستعمل سلاحاً، فلا النووي أزاح سلاح الحجارة، ولا الرواية ستزيل الشعر عن عرشه.
****
هوامش:
1) انظر ترجمة آلن غليرت، عن كتابه النقد الأدبي من أفلاطون إلى داريدن ص (74) نيويورك 1940
Allan Gilbert.Plato Dryden.Libray Criticism
2) مفاهيم نقدية لرينيه ويليك ص 33، ترجمة د. محمد عصفور (عالم المعرفة) الكويت 1987
3) مفاهيم نقدية لرينيه ويليك ص41
الرياض