منذ أن انتشرت الحواسيب وما قدمته لنا من خدمة معلوماتية حتى انتشرت المواقع على الإنترنت وانتشرت الصحف الإلكترونية، بل وصارت الصحيفة المكتوبة تنشر هي الأخرى على الإنترنت ولم يعد وجودها على لوحات المكتبات سوى شيء من ديكور المكتبة يظل الموزع محتارا في طريقة إعادتها للمركز فصارت بعض الصحف تطبع في البلدان عبر شبكة الانترنت وظهرت صحافة مطبوعة جديدة سريعة ذات طابع إعلاني وبضعة أخبار ومعلومات تسمى بأسماء محطات القطارات والباصات يتداولها الناس مجاناً وتوزع منها الملايين ما يغري المعلن أن يضع الإعلان عن بضاعته في هذه الصحف.
"هوسه" بالتعبير الشعبي أو فوضى لا أحد يعرف أو يحسب بشكل دقيق أسبابها ونتائجها لأنها هجمة داهمت الواقع مثل السيول أو الفيضانات المفاجئة أو مثل غضب الطبيعة يأتي بشكل مهول ويداهم المنازل والشوارع ويبقى الفرد والدولة حيارى إزاء ما يجري ويصبح همهم الوحيد كيف ينتشلون الجثث.
لم تكتف المواقع بشتم الناس في المقالات التي تكتب بدون وازع ضمير وينشرها صاحب الموقع بدون وازع ضمير بل ويتيح لعدد من القراء الذين دفعت بهم عمليات التجهيل إلى مستويات متدنية ليكتبوا كومة من الشتائم على صاحب المقال ويبقى الشخص الذي أهين أو ذل أو شتم حائرا لا يعرف كيف يقيم الدعوى على من وعلى أي موقع وعبر أي محام ومن يدفع تكاليف المحاماة سيما إذا كان الشخص الذي تلقى الأذى لا يملك ما يسد به رمق العائلة.
لقد فضل الكثير من الكتاب الانزواء وعدم الكتابة لأن ما يكتبونه يعاد نشره من قبل الصحيفة على الإنترنت ويبدأ القراء بقول ما يشاؤون حتى وإن لم يشتموا فإنهم يعقبون بما يثير الغثيان عند الكاتب بسبب هزالة التعقيب أو هزالة اللغة.
ليس ما أقوله تعاليا على القارئ العادي الذي قد يدعي ضرورة إبداء الرأي!
ولكن جاء في القرآن الكريم "بسم الله الرحمن الرحيم. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعملون إنما يتذكر أولو الألباب".
في المواقع الإلكترونية وفي الصحافة الإلكترونية قد تساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
قبل أيام قرأت مقالة لشخص بدأ بكتابة مذكراته. ثم اختفى بعد الحلقة الأولى وعندما بحثت عن السبب وجدت أحد القراء قد كتب عنه معقبا شتائم لا يمكن قراءتها ولا كتابتها فسمح صاحب الصحيفة الإلكترونية بنشر هذا التعقيب ما جعل الكاتب يتوقف عن كتابة ونشر مذكراته في تلك الصحيفة الإلكترونية. أما المواقع الشخصية فإن مستوى ما ينشر فيها قد حول القراء إلى كتاب والكتاب إلى قراء لمواد ثقافية وسياسية واجتماعية سوف تشكل ظاهرة بمرور الوقت وسوف يظهر كتاب لا علاقة لهم بالكتابة ولا القراءة لأن المواقع تجاوزت الملايين والجيل منشغل بها والطلبة مهووسون بها والمشكلات الاجتماعية تتفجر في الواقع العربي وغير العربي ويبدو الأمر وكأنه بدون حل.
سؤال وجهته لنفسي وأنا في حيرة من أمري أراقب المواقع والصحف الإلكترونية وقد تصيبني شظايا من هذه المتفجرات التي لا أحد يسمع صوتها لأنها شظايا ساكتة. وحتى لو أراد الواحد منا أن يركن للهدوء وأن يترك الكتابة ويبحث عن عوالم النخبة في الأدب والفن وينزوي ويذهب لمقهى ناءٍ بعيد يرتشف فيه فنجان القهوة ويبكي أو دون أن يبكي فإنه لن يسلم من هذه الشظايا التي لا صوت لها. سألت نفسي كيف يمكن إيقاف هذه المهزلة أو تحويل مباهج وفوائد الإنترنت إلى أمل ينهض بالمجتمعات وينهض بالثقافة بدلا من أن يتحول إلى تسونامي أو هايتي في الثقافة الإنسانية.
إن قراءة واعية لما يجري على مواقع الإنترنت وفي الصحافة الإلكترونية وأيضا في الصحافة الورقية التي تظهر على الإنترنت تضعنا أمام مخاوف حقيقية قد تؤدي إلى انهيارات مفاجئة، لأن الانهيارات التي تأتي فجأة إنما هي تراكم كمي ونوعي ذو طبيعة مادية. وهذه الانهيارات سوف يفاجأ بها المجتمع مرة واحدة وبدون مقدمات تماما كمن يصحو من نومه ولا يجد المدينة على قيد البقاء ويجد نفسه وحيدا حيا بطريق الصدفة إذا لم يكن السيل قد جرفه هو الآخر.
إنني لا أتحدث هنا لإثارة الخوف ولكن هذا ما سيحصل بالتأكيد.. كل المجتمعات مهددة لأن عمليات الابتزاز الاقتصادية تقوم على نشر الجهل بطريقة منظمة وبحسابات مستقبلية. وهنا تأتي مسؤوليات الدولة إضافة إلى مسؤوليات المجتمع والعائلة. فظاهرة تمرد الأبناء على الآباء والأمهات في الغرب سببها حسب الدراسات هو الإنترنت أولا ثم الفضائيات ثانيا. وهناك تدهور اجتماعي يتفاعل جدلا مع التدهور الاقتصادي. وظاهرة الخوف من المؤسسات المصرفية والمؤسسات الضرائبية تثير الذعر ولا أحد يدري مدى صحة ما ينشر أو عدم صحته على مواقع الإنترنت والصحف الإلكترونية وذلك لغياب المسؤوليات. فكيف الحال في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تفتقر إلى البرمجة والدراسة العلمية والتي هي ظاهرة مؤسفة حقا؟!
بعد سنوات من التدهور الإعلامي والنتائج السلبية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية انعقد مؤتمر واحد للفضائيات وطواه النسيان بعد أن كان مجرد كلمات ودعوات عشاء لأفكار عابرة عن ظاهرة غابرة.
من الصعب الآن التحدث عن وحدة الهدف. فالوطن الحلم صار أوطانا وإذا لم يبادر المسؤولون في المنطقة إلى مؤتمر جاد توضع له دراسات مسبقة متضمنة الحلول القانونية لظاهرة الإنترنت وقوانين الأقمار الاصطناعية والسيرفرات وحقوق تأجيرها وامتلاكها فإن العالم في تصوري ليس سوى قرية مباحة ومفتوحة لكل الاحتمالات السلبية.
وبسبب هذه الكارثة غير المسؤولة والتي تنشر بدون حسابات الضمير وحسابات بناء المجتمع والأسرة فإن جيلا قادما لا أحد يعرف كيف سيبني الأسرة وبالتالي المجتمع وبعد ذلك الدولة إذا كانت ثقافته قائمة على ثقافة الإنترنت.
المعرفة شيء ونشر الجهل شيء آخر مختلف تماما ولا ينبغي جمعهما في موقع واحد!
الحرية شيء والغرق في الإسفاف شيء آخر مختلف تماما ولا ينبغي جمعهما في موقع واحد!
المشكلة لا تكمن فقط في مضامين المواقع الإلكترونية والصحافة الإلكترونية بل إن الأشكال التي تقدم بها هذه المواقع هي الأخرى تساهم في تدني القيم الجمالية لدى المتلقي. وهي لم تعد مجرد تصميم غير منسجم التشكيل ولا الألوان ولا الصياغة بل إن ذلك تعدى إلى الصورة المتحركة على شبكات الانترنت ومعروف أن للصورة المتحركة مخاطر كبيرة ليس على مستوى المعرفة ولا على مستوى التأثير السيكولوجي بل على مستوى التأثير الفيزيائي على المتلقي لعلاقة حركة الصورة بفسلجة العين. وهذا يؤدي إلى انهيارات اجتماعية ويقود إلى فعل في الاعتداء والجريمة والتشويه.
إن ميزان التأثير السلبي ترجح كفته كثيرا جدا على التأثير الإيجابي والمنفعة الإيجابية تكاد تتلاشى وسط التدهور السلبي لهذه الظاهرة.
لم يكتف التطور ذو الحدين الإيجابي منه والسلبي بالظهور على الإنترنت بل هو يتسارع وصار على الهاتف النقال بحيث إن الإغراءات التي تقدم للمتلقي ولصاحب الهاتف كثيرة وستكون على مدى يقظة الإنسان في الصحو وتلاحقه بشكل أو بآخر في المنامات. سوف يتحول الإنسان إلى كائن يده مرفوعة نحو أذنه ووعيه مشدود لشاشة صغيرة تؤثر مغناطيسيا ونفسيا على مشاعره وتقوده نحو ما يقود إلى مأساة كبيرة تصيبه فردا وتهدم المجتمع بالضرورة.
أنا أدعو كل من هو قادر على تقديم دراسة وافية لعدد كبير من المتخصصين لإيجاد حلول قانونية ونفسية وأكاديمية للاستفادة من الإنترنت وإيقاف التدهور الحاصل ومن ثم عقد مؤتمر موسع ولفترة كافية متسمة بحلول عملية تتحول إلى قوانين وإعادة نظر في العلاقة بين الأقمار الاصطناعية وشركاتها وحرمة الفضاء والتلقي.
وبدون ذلك.. الله يستر من الشظايا الساكتة التي تتفجر كل يوم دون أن نسمع دويها. لكنها إذا ما تراكمت فإن دويها غير قابل للاستماع!
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 7591 ثم أرسلها إلى الكود 82244
* هولندا
sununu@ziggo.nl