قرار تمديد إدارات الأندية الأدبية أعاد إلى المشهد الثقافي مسألة «الانتخابات الثقافية» وما يحيط بتلك المسألة من غموض قد يحيلها إلى إحدى «المحظورات الثقافية»!
ولو كان هناك توجس من هذا المسألة من قِبل صاحب القرار فما هي أسباب ذلك التوجس؟
هل هو المبدأ في ذاته وارتباطاته السياسية والدينية والفكرية والفقهية، أم نوعية المعطى وما يثيره ذلك المعطى من اختلافات ثقافية وفكرية قد تهدد وحدة الدستور العرفي للأنظمة الاجتماعية وثوابت الهوية الوطنية، أم عدم الثقة في العقل الاجتماعي وطبيعة المثقف في جدية استقبال هذا التجديد في آلية الاختيار وتفعيل تعميمها كتجربة تطبيقية قبل العمل على ترسيخ مبادئ ثقافة الانتخاب؛ حتى يُضمن استثمارها لمصلحة تطور الفكر الثقافي وليس استغلالها لنشر الفتنة الفكرية والثقافية في المجتمع؟
كل تلك مبررات قد نلتمسها لصاحب القرار في هذه المسألة في تأجيل الانتخابات الثقافية لرسم إستراتيجية إجرائية لتفعيل ثقافة الانتخاب على مستوى الأفراد والمؤسسات.
وحتى مسألة التأجيل يجب ألا تكون مفتوحة وإنما محددة بوقت معين يتناسب مع طبيعة التفكير الاجتماعي وسقف مؤهلاته الحضارية.
وقد يقول قائل بما أننا سنربط تنفيذ القرار بطبيعة التفكير الاجتماعي وسقف مؤهلاته الحضارية سيصبح حالنا كقول الشاعر:
«زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع».
وأعتقد أن التفكير في الأمر بهذا المنطق هو سوء ظن بطبيعة التفكير الاجتماعي وسوء تقدير لسقف المؤهل الحضاري للتفكير الاجتماعي، فالمجتمع السعودي رغم خصوصيته المحافظة إلا أنه سريع التكيّف مع المستجدات التي لا تلمس دستوره العرفي، في ضوء تكثيف توعوي بنفعية الشيء وعدم تقاطعه مع مبادئ دستوره العرفي ومن خلال تدعيم إستراتيجية لإتمام ترسيخ مبادئ ثقافة الانتخاب. كما أن الانتخابات الثقافية لا تتعارض مع مبادئ الدستور العرفي للمجتمع على العكس فهي تٌعلم الفرد ثقافة مسؤولية الاختيار.
لكننا لا نقبل تلك المبررات بلا شك من باب سد الذرائع لرفض أو إلغاء فكرة الانتخابات الثقافية، وخاصة وأن لدينا في البلد مثالاً تحصيلياً ناجحاً للانتخابات في الغرف التجارية بصرف النظر عن مستوى ونوعية ذلك التحصيل، وهو ما يعني أن المبدأ في ذاته عند صاحب القرار هو مبدأ مقبول بدليل وجود مثال له. فمبدأ الانتخابات كسلوك ثقافي وإداري وتنظيمي غير مرفوض على مستوى القرار الحكومي لوجود مثال واقعي وممارَس في المجتمع.
وبما أن هناك مثالاً للمبدأ فلماذا لا يُكرر في الأندية الأدبية؟
فما الفرق بين الغرف التجارية وبين الأندية الأدبية فكلتا المؤسستين تتبع مركزيتهما القرار السياسي الرسمي؟ وهذا التناقض كما أحسب يُشير إلى عدم ثقة المسؤول بالمثقف السعودي. فهل يعتبر صاحب القرار أن المثقف السعودي غير قادر أو غير مؤهل لممارسة التجربة الانتخابية مثل رجل الأعمال؟ أو أن المثقف السعودي حتى الآن لا يمكن المراهنة عليه في تقديم نموذج إصلاحي من خلال الانتخابات الثقافية لتطوير التفكير الاجتماعي؛ لعدم امتلاكه رؤية وبرنامجاً وإستراتيجية إجرائية؟
أو أن المثقف السعودي قد يستغل الانتخابات في إثارة الفتنة الثقافية في المجتمع؟ أو أن صاحب القرار لا يثق في أصالة وقوة الهوية الوطنية للمثقف؟
وهذه الافتراضات إن صح مضمونها هي في حد ذاتها إشكالية، وهي إشكالية ليس بالنسبة لصاحب القرار على مستوى التأهيل فقط، بل المثقف السعودي نفسه على مستوى مقتضيات المسؤولية الثقافية.
ولو أردنا أن نناقش صحة أو عدم صحة المنطق الحججيّ لصاحب القرار فيما يتعلق بالشك في كفاءة مسؤولية المثقف في ممارسة الانتخابات الثقافية، لا بد أن نبدأ من نقطة قابلة للاتفاق على محور مهم؛ وهي أن تطبيق أي تجربة لا يتم إلا بعد التأكد من استعداد عناصر التجربة لمضمون التطبيق، والاستعداد بدوره له مستويان؛ المستوى الأول وينبني على أربعة أسس هي: وجود احتياج، الرغبة في القبول، المعرفة الكافية للمفهوم، ومقتضيات التجريب.
والمستوى الثاني ينبني على ثلاثة أسس هي:كفاءة الرؤية، القيمة الإصلاحية للبرنامج وواقعية الإستراتيجية الإجرائية.
ويعتمد انبناء كلا المستويين على قدرة المثقف على تشخيص الواقع الثقافي لمعرفة سقف احتياجاته وضبط موقفه من تجديد آلية الاختيار وتفقيه وعيه المعرفي للمفهوم وجدلياته أو المغالطات التي تحيط به، وتقديم الإرشاد الثقافي الكافي لمقتضى التجديد والتجريب.
وبذلك فنحن نلاحظ أن آليات تشخيص الواقع الثقافي هي جزء من إنشاء واقعية الإستراتيجية الإجرائية وصياغتها كما أنها جزء من كفاءة الرؤية وجزء من القيمة الإصلاحية للبرنامج الانتخابي للمثقف.
وأقول جزءاً لأن الرؤية والبرنامج يكتملان كقيمة إصلاحية بوضع بدائل ممكنة على مستوى الواقع ومستوى التنفيذ ومستوى كليات الدستور العرفي للمجتمع ولذلك اشترطت واقعية الإستراتيجية الإجرائية للبرنامج الانتخابي للمثقف.
وفي ضوء ذلك الإطار ما مدى الإمكانية التنفيذية التي يتحلى بها المثقف السعودي لتحقيقه؟
قد يرى البعض أنني أفرض افتراضي على المثقف في هذا الأمر وأجعله من ضمن الإمكانيات التي يلتزم بها، ولا أحسب أن هذا الرأي صائب؛ لأن الافتراض السابق لمستويي التجربة الانتخابية هو مسار منطقي في ذاته وليست وجهة نظر خاصة لأن وحدة المقدمة تؤدي إلى وحدة النتيجة.
وإن كان البعض قد يرى أن ما يمثّل لي قاعدة منطقية قد لا يمثّل لغيري قاعدة منطقية، وأن المنطق ليس اعتباراً موضوعياً في ذاته يكفل الاتفاق عليه وتعميمه.
وهذه الفكرة في ذاتها جدلية معقدة ومناقشتها تحتاج إلى أكثر من مقال.
المنطق الذي أقصده هو «مجموعة المعايير التي تُعين على بناء سقف موضوعي لمفهوم ما حتى يكون قابلاً للتصديق والتحقيق؛ أي توفير حدود عقلية تستند على التصور والدليل».
وبذلك فتصورنا لمفهوم معين لا يتم إلا عبر ضمنية إجرائية تتشكل من خلال معايير وآليات وممثلات؛ أي أنني لا أستطيع أن أبني تصورا يستند على الصفرية أو على الفراغ، كما أنني لا أستطيع أن أنتج تصورا فارغا من ضمنية إجرائية.
وبما أن الواقع القابل للتعديل هو مجموعة من الخصائص فالُمترتِب الاستقرائي سيتفق مع آليات تعديل خصائص ذلك الواقع وهو اتفاق حاصل اتفاق الفاعلين الاستقرائيين؛ أي عندما يعمل الفاعلون الاستقرائيون رغم اختلاف خلفياتها الثقافية وفق مقدمات محددة فإنهم سيصلون رغم اختلاف الخلفيات إلى ذات النتائج، وهو ما قصدته بعبارة «وحدة المقدمة تؤدي إلى وحدة النتيجة» التي تقوم عليها فكرة «الإجماع بالمنطق».
وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نفرض آليات تجربة ثقافية جديدة دون دراسة الوسط الذي سيُطبق ويمارس التجربة «تشخيص الواقع» كما أننا لا نستطيع ممارسة تجربة جديدة دون سقف موضوعي يعتمد على رؤية وبرنامج وإستراتيجية إجرائية.
إذن على المثقفين أن يتفقوا على أهمية وجود ذلك الإطار لضبط المسار المنطقي لتجربة الانتخابات الثقافية.
وأعود إلى السؤال السابق هل يملك المثقف إمكانية ضبط المسار المنطقي لتجربة الانتخابات الثقافية وتقديمها كنتائج لتشخيص الواقع، ومعطيات لتصميم البرامج الثقافية الانتخابية؟
إن الذين يدعون إلى الانتخابات الثقافية ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول يدعو إلى الانتخابات الثقافية لمجرد أن يكون في دائرة الضوء دون أن يقدم مرئيات تُعين على تكوين الجانب النظري والإجرائي لهذه التجربة بل وأحسبه لا يملك أي معرفة لمفهوم الانتخابات واشتراطاتها وآلياتها، وخطورة هذا القسم أنه يسعى إلى إشاعة الفوضى الثقافية عبر الانتخابات،كما أنه لا يملك سلماً تقويمياً للقيمة والتقدير والكفاءة، وهو أمر يجعله غير مؤهل لا كمنتخِب أو منتخَب.
والقسم الثاني يملك مرئيات تنظيرية لكنها غير قابلة للتصديق والتحقيق لأنها لا تملك إستراتيجية إجرائية تتناسب مع واقعية المجتمع وخصوصية هويته، وأعتقد أن هذا القسم لا فائدة منه فوجوده مثل غيابه «لا أثر ولا تأثير»
وأظن أننا نحتاج إلى قسم ثالث يفكر في موضوع الانتخابات الثقافية ويطرحها كقضية ثقافية ضمن ضوابط المسار المنطقي والمتفق مع موضوعية معطيات وأنظمة العقل الاجتماعي. «اتفاق الإمكانية المؤلفة مع الإمكانية الواقعية».
إن قيمة الانتخابات الثقافية حسبما أعتقد ليس في ذاتها كمبدأ؛ لأن تحقيق المبدأ لا يشترط وجود القيمة أو صحتها إن وجدت، كما لا يشترط تحصيل النفعية.
وبالتالي فليس من الضرورة تحقق الكفاءة في ناتج ممارسة المبدأ، ولذلك أنا ضد من يدعو إلى الانتخابات الثقافية للمبدأ ذاته دون وضع اشتراطات تتعلق بكفاءات الرؤية المقرر والإجرائية والغاية والمحافظة على الهوية الوطنية ومصلحة العقل العرفي للمجتمع.
واشتراط تلك الكفاءات وخصائص الهوية الوطنية والعقل العرفي لا يضر بالقيمة الديمقراطية للانتخابات الثقافية، بل سيدعم الأهمية الوظيفية لها، والأهمية الوظيفية بدورها لا تتحقق إلا ضمن ضوابط المسار المنطقي لمفهوم القيمة وأهدافها وأهميتها وآليات إجرائيتها لضمان كفاءة الناتج ونفعيته. وأكرر لأُذكّر من يطرح فكرة نسبية محتوى القيمة والنفعية أن التحقيق والتصديق يرفعان صفة النسبية عن الأشياء.
إضافة إلى أن الأعم الأغلب من المثقفين السعوديين في القسمين لا يملكون برنامجا ثقافيا سواء يراعي ضوابط المسار المنطقي يمكن المراهنة عليه أو لا يراعي، ومن قرأ موضوع الدكتورة لمياء باعشن «أدباء بدون أدب» سيتأكد من ذلك.
وقد يرد قائل بأن عدم وجود برنامج ثقافي لكل مثقف هو عائد إلى غياب الفرصة التي تمكنه من إعداد وفرض برنامجه الثقافي وهذه هي فائدة الانتخابات الثقافية، ولا أظن أن الأمر يتعلق بوجود الفرصة بل يتعلق بعدم أصالة الموقف الثقافي للمثقفين السعوديين وهو ما يفقدهم مُستند تصميم برنامجهم الثقافي المراعي لضوابط المسار المنطقي وصناعة العقل الثقافي، إضافة إلى خصائص المثقف السعودي المجدد التي ذكرتها في موضوع «الدستور الثقافي بين الواقع الثقافي والمثقف».
وهذا الرأي لا يعني انتقاصاً لأي مثقف، فكما أن ليس كل مثقف قادر على أن يصبح مسؤولا ثقافيا أو يمارس الإدارة الثقافية، أيضا ليس كل مثقف من حقه أن يخوض تجربة الانتخابات الثقافية فالأمر مشروط بالتأهيل والكفاءة والقدرة على صناعة منهج وبرنامج ثقافيين، وإن كان كل مثقف بلا شك من حقه أن يطالب بوجودها لكن وفق اشتراطات التصديق والتحقيق التي تعتمد على سقف موضوعي يتناسب مع نتائج تشخيص الواقع الثقافي وترسيخ وحدة الهوية الوطنية ومع متطلبات ذلك الواقع ومع الرؤى الإصلاحية للخطاب السياسي، حتى لا تصبح الانتخابات الثقافية باعث للفوضى والفتنة الثقافيتين في المجتمع.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7333 ثم أرسلها إلى الكود 82244
* جدة