«اعرفْ أن تعمل بإتقان، واعرفْ التعريف بما تعمل»، هذه نصيحة سمعتُها ذات يوم وبقيتْ في ذاكرتي مع أنني قليلاً ما أتقيد بها. أكتشفُ من حين إلى حين قلّة الذين ينجحون في تفعيل جناحي النصيحة، فآناً لا يتقنون ما يعملون ولكنهم يتقنون ترويجه - كي لا أقول تسويقه - لأنني في صدد الحديث عن «الإبداع الروائي»، كما ألمس النقيض في آن آخر، عندما يتقن كاتب عمله ولا ينجح في الترويج لما فعل.
أود لفت الانتباه إلى أنني أقيس سوية الإتقان وسوية اللاإتقان بمقياسي الشخصي، وأحكام القيمة التي أُطلقها لا تستند إلا إلى هذا المقياس، بعيداً عن نشاط جمهرة حاملي الموازين والمكاييل الأكاديمية من الفاعلين في المجال الثقافي العام ذوي المعابر المفتوحة إلى وسائل الإعلام... أشير أيضاً إلى أنني أقيسُ مقدار إعجابي بروايةٍ ما، بمقدار نجاحها في ترميم واقع الأحداث وسد الثغرات المفتوحة فيها عمداً أو سهواً، دون أن تتحول إلى بحث تاريخي. ويزداد إعجابي بها عندما تعيد وضع الذاكرة الجمعية على درب يقترب قَدْر المُستطاع من «الواقع» أو من الحقيقة، النسبية دائماً، وعندما يرتفع الروائي بحسه ويتعالى عن الانتماءات شبه الغريزية، أي عندما لا ينحاز إلا إلى ضميره.
عندما كتب لوي فردينان ديتوش (سيلين) روايَته الشهيرة «رحلة إلى آخر الليل» في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، استقبلها كثيرون باعتبارها رواية يسارية ومنحازة إلى الشيوعية، حتى إن الكاتب دُعي إلى زيارة الاتحاد السوفييتي، مع أنه «عنصري ويميني» في أنظار كثيرين، يكمن هنا سر تفوق الضمير الروائي في معالجته للواقع.
تأتي أهمية أي رواية عندي من أثرها المُستدام الذي يبقى في النفس بل وفي اللاشعور.. قرأت بؤساء ؟يكتور هو؟و وأنا في مرحلة الدراسة الثانوية، ومهما كابرتُ فأنا نسيت كيف تبدأ وكيف تنتهي. غير أن شعوراً ما، لم أهتد إلى تعريفه، ما زال إلى اليوم في «لاوعيي» أو في إدراكي لتلك الرواية. شعور بالنفور العميق من الظلم حفرَ أُخدودَه في أعماق نفسي.
لعبتْ موازيني هذه دورَها عندما قرأتُ عملَيْن روائيين كتبهما منذر حلّوم، صديقي بكل ما تعنيه كلمة صديق، كي أُبعِدُ عمّا أكتبُه شبهةَ «الموضوعية» التي يتسربل بها كثيرون من النقاد المعاصرين؛. أسارع إلى القول إلى أن «سقط الأزرق من السماء»، و»أولاد سكيبة»، قد حفرتا في نفسي أخدودَيْهما العميقين الذي تحفره عادةً أعمال كالبؤساء أو رحلة إلى آخر الليل. أنا لا أضاهي هنا بين الروايات فهذا ليس عملي، أنا أحكي عن تأثير كل منها في نفسي لأسباب كامنة في كل منها. كما أود الإشارة إلى وجود فارق بين عمل الذاكرة التي قد تحتقظ بتفاصيل أحداث رواية ما، وبين مقدرة الرواية على حفر أخدودها في النفس.
نُشرت (سقط الأزرق من السماء) أولاً، لأنها كُتبت منذ سنوات (ربما جاء عنوان لرواية من كون كاتبها رساماً أيضاً)، واستُقبلت إعلامياً بتواضع جم، بالمضاهاة بأعمال أخرى نشرها من يحظون ببركة النقد والإعلام.
الرواية تستحق برأيي اهتماماً أكبر مع أنها نالت بعض الاهتمام ممن فوجئوا بها بدهشة إيجابية، كما فوجئت يوم أهداني هاني الراهب روايته الوباء، فكتبتُ في «الكلب» يومئذ تعليقاً مطلعه:
(قرأتُ وباءَكَ يا راهبُ وأدهشني أنك الكاتبُ)
وأشار إليها من لم يستطيعوا السيطرة على انفعالاتهم وهم يقرؤونها لامتلائها بالتصعيد الدرامي، أو من صنفوها ومعها روايات سورية أخرى ووضعوها على رف «رواية المخابرات». أو من احتاروا وحيَّرونا في اختيار رف يضعون عليه الأزرق الذي سقط من السماء... سقط بمعنى رسب عند روزه بمكاييلهم. ومنهم من تعبوا وأحبطهم التفاوت في عدد السطور التي أوقَفها الكاتب على هذه المجزرة أو تلك...
لا يدخل هذا كله في حساب مِزاجي، ولا في تحديد معياري الذاتي للعلامات التي سوف أعطيها للرواية، يومَ يتم توظيفي في واحدة من لجان توزيع الجوائز على مستحقيها من كادحي كتابة الروايات المنتشرين بين المحيط والخليج.
كيف تحفر رواية ما، أو أي عمل فني آخر، أخدوداً في النفس؟ الأفضل أن نسأل لماذا؟ لقد جعل بعضُ المفكرين مسيرةَ التاريخ ذات اتجاه، من يفهم منحاه يكون «تقدميّاً» ومن لا يفهمه يكون «رَجعيّاً». ولم يتم حسم المسألة إلى اليوم برغم ما حدث في هذه الدنيا، فهل يكون بالمستطاع حسم الأمر ذاتياً داخل النفس ومتاهاتها؟ أيمكن لأي كان اعتبار بيئته التي يعيش فيها متجهة إلى الأمام أو إلى الوراء أو تدور حول نفسها، استناداً إلى معاييره الذاتية؟
المدهش في الأمر أن العمل الفني الذي يواكب مسيرة التاريخ المُفترض اتجاهها إلى الأمام، يحفر أُخدوده الذاتي، مثلما يحفر العمل المتجه إلى الوراء. أما العمل الذي يفشل في الحفر فهو الذي يدور حول نفسه، أي لا يتمكن في نهاية المطاف من اتخاذ موقف حاسم، أو قول شيء مهم.
يحفر منذر حلوم في النفس بما يكتبه، أخدوداً يتجه إلى الأمام في هذا الفضاء الذي كثيراً ما يعدونه فراغاً... وأعرف أنني بهذه «الألعاب النارية» التي أطلقتُها، لا أقول شيئاً سوى أن المعايير «المُتعارف عليها» لروز الأعمال الإبداعية قد لا تؤخذ بعين الاعتبار عند أمثالي من المزاجيين. فقد يُصنِّفُ مزاجيٌ عملاً «جماهيرياً» ويضعه على رف الأعمال «القطيعية»، وقد تصنع أعمال أخرى قطيعةً مع هذه القطيعية، وهذه مسألة عويصة ينبغي تأملها.
بدأ عدد قليل من كتّابنا يشقُّون بأظافرهم درباً في الصوان، قد يصل إلى دنيا جديدة... بينما راح آخرون يتنزهون - بعضهم في عربات مطهمة مكيفة - على الطرق السريعة جداً المؤدية إلى راحة البال لا إلى راحة الضمير... ولكل قارئ - لابداعاتهم - الحق بالالتحاق بذاك الرعيل أو بهذا الجحفل. وبوسع الحريصين على نقاء الفن حمل روائزهم وموازينهم وقبابينهم لمعايرة كل سطر وكل صفحة، تمهيداً لإعطاء العلامات التي تتيح لكل عمل دخول «الجامعة»، كما هي حال طلاب الثانويات.
منذ نيف ونصف قرن، كشفَ الروائي الفرنسي الشهير سيلين، المعايير التي تضمن شهرة الكاتب واعتراف الأوساط الأدبية والإعلامية «بنبوغه». جاء ذلك في مطلع روايته «بين قصرين» منشورات اليمار 1957 وفي الصفحة الثلاثين. وهذه هي روائزه:
«ينبغي القول... لو أنني انتميتُ إلى خَليةٍ ما، إلى كنيسٍ ما، إلى محفلٍ ما، إلى حزبٍ ما، إلى كنيسةٍ ما، إلى شرطةٍ ما... أيا كانت!... ولو أنني خرجتْ من طيات أي «ستار حديدي»... لتمَّتْ تسوية أموري كلها بالتأكيد! وبصرامة! وتجرد!... لو أنني أنتميتُ إلى «سيرك» ما، لأنه بمثل هذه الانتماءات يقفون: موروا ومورياك وتوريز وتارتر (يعني سارتر) وكلوديل!... والتابعون، الأب ?يير وشوي?تزر وبارنوم... بلا أي خجل... وبلا شرط العمر! تصبح نوبل مضمونة كما وسام جوقة الشرف من رتبة الصليب الأكبر... يمسي كل شيء مسموحاً لك فعله فور الاعتراف بك مُهرجاً! وبأنك بالتأكيد تنتمي إلى سيرك!...
قيل هذا الكلام في فرانسا... أما في غيرها فالأمر مختلف.
يومَ ينتمي صاحب «سقطَ الأزرقُ من السماء» و»سكيبة» إلى واحدةٍ من تلك الجهات التي نَوَّه بها سيلين - أي إلى ما يعادلها - يومئذ سوق أتخذ منه الموقفَ المتناسبَ من إنتمائه الجديد، دون الاهتمام بامتثاله إلى دفتر الشروط الفنية، التي يصدعُ بها رؤوسَنا دهاقينُ النقد والإبداع الروائيين، إلا أنني لا أراه فاعلاً ذلك غداً.
* اللاذقية