الثقافةُ ليست بالظهور والمظهر والتمظهر، فالثقافة كامنة في الجوهر دائماً. تساقط عليّ مطر هذا الكلام، ساعة طمأنينة وسلام، وأنا أستعيد جملة من المثقفين الحقيقيين البعيدين عن الواجهات، المحبين للخير والناس، القادرين على التمام، فقلت إنني بخير، إن الوطن بخير.
وهنا، تحديداً هنا، يقفز اسم أخٍ شابٍ جميل، قل هو ابنٌ جميل، وهو صالحٌ وعمَر، أما الصلاح فكلنا سعيٌ إليه، وأما عمر فاستعادة لتاريخ وبطولة وإيمان وعدل وحكمة، إنه عمر عبدالله الصالح، المهذب الأديب، الحافظ القريب من القرآن، متابع الشعر واللغة، المريد والابن والصديق لأستاذنا وأديبنا الأثير الكبير عبدالله نور -رحمة الله عليه-.
كانت ليلة حلم، أو كان حلم ليلة شتائية جميلة، كان من أجمل ما فيه وفيها النقاش الحر، مع الأخ محمد السناني أطال الله في عمره، وعبدالله الزيد، وغيرهم من الأحباب، وكان كل منهم يكمل للآخر آيات قرآنية بينة، مما يثير غبطة صاحبكم الذي لا تسنده الذاكرة إلا لماما.
وإليكم ما حدث تماماً: لقد كنا نتناقش المفاضلة بين الصاحب والصديق في الدلالة والعمق التعبيري، وكنت منحازاً إلى الصاحب بدلالات قرآنية وسنية.. وما تستدعيه الذاكرة من شعر عربيّ أصيل يدوّن ذلك ويسنده، حتى حسم عمر الموضوع باستعادته للآية الكريمة: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) التوبة 40.
يزورني عمر كثيراً، وهو ابن بار، لكنني لا أنسى له زيارتين مرسومتين في القلب والذاكرة: أولاهما عندما مر بي ليأخذني للصلاة على حبيبه وحبيبي عبدالله نور، ووداعه إلى مثواه الأخير.. وقد كان محباً له، حريصاً عليه، مضيفاً وفياً كلما أسعف الوقت أبا عبدالرحمن بزيارته، وقد لمست ذلك شخصياً أثناء ترددي عليه، ولقد بادله النور حباً بحب، وسمح له خطيّاً بنشر كتاب يتضمن كثيراً من أعماله..
أما الثانية فكانت عندما مّر ليساعدني على اختيار قصائدي، وترتيب أوراقي، والترفق بإيصالي لأمسية نادي الرياض الأدبي الشهيرة، التي قلنا عنها ما قلنا، لا ازدراء، بل طمعاً وحباً في أن تكون للأديب قيمته في الحياة لا في الممات، أو لا قدر الله بعد فوات الأوان!!.
فيا لهذا العُمَر الذي يحمل لك أوراقك، ويفتح لك بابك، بل هو يفتح لك بالفعل أبواب السعادة، وذلك بالتواضع الجم، والاحترام الذي يحيطك به، فتمطر عليك الدنيا كمطر الرياض الجميلة بعد نأي واستسقاء ودعاء.
والغريب في عمر أنه ليس بشاعر، ولا يعمل في الإعلام، ولا علاقة له بالصحافة، بل هو موظف نجيب في الخطوط العربية السعودية، وفي التسويق تحديداً، وهو خريج جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، فما الذي قاده للقراءة المعرفية الجادة، والأسئلة الشقية الكاشفة، والمتابعة المكثفة لكل ما يعني الوطن والناس؟!
ما الذي جذبه لحديقة الأدباء والشعراء؟!
ومن الذي علّمه حبهم والعناية بهم، بل ربما التفضل عليهم؟!
هي أسئلة وحده عمر القادر والمالك لأجوبتها، لكنني بكل تأكيد قادر على ذكره دونما أسئلة باعتزاز وامتنان، وبينبوع حب لا ينضب، وبفخر يهمس في أذني بأن شباباً هم الوطن يرفعون الرأس فنزداد بهم طولاًً فكن معهم، واحرص عليهم.. ويا لهم من شباب رائعين كروعته، يمحون الصورة المشوهة التي ربما رسمتها أسماء طالما ذبحتنا بادعاءات ثقافة واهمة واهية..
بوركت يا عُمَر.. وبورك وطنٌ يثبتُ لنا دوماً أنه غنيّ بأهله وأبنائه.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 5182 ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض