2 - مشروعه الأكاديمي غير المباشر:
يكاد يجمع أرباب التجربة على أنّ من سمات المشاريع الواعية التمدّد في الزمن، والتراكمية، ويكادون يجمعون أيضا على أنّ هذا العصر المتجبّر لا ينقاد إلى فرد، ولا يسلِّم نفسه - بسهولة - لواحد؛ من هاهنا جاوزت كلماتهم الزمان والمكان، داعية إلى أن يجتمع في العمل شيئان: الهدوء والجماعية...، ومتى فقد عملٌ ما - والعمل الموسوعي على وجه خاص - واحداً منهما فإنّه سيخطئ طريقه إلى الجنة.
اعتماداً على هذه الفكرة، وانطلاقاً من متابعة جيّدة لقوائم الدراسات النقدية الشعرية السعودية - فقط - في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية دون غيرها، وجدتني أمام موسوعة متكاملة للشعر السعودي، وربما أيضا للأدب السعودي - إنْ نحن أضفنا إليها الدراسات المنجزة في الفنون الأدبية الأخرى - يتحقّق فيها ما هو فوق (الهدوء) و(الجماعية)؛ بحيث تصلح لأن تكون موسوعة علمية متكاملة للأدب السعودي - والشعري منه خاصة -، تضع القارئ الجاد أمام الصورة بكثير من التفاصيل المهمة.
هذه الدراسات لها ارتباطٌ طريفٌ بالدكتور الفوزان، فهو قد وظّف طاقته وممتلكاته كلَّها في خدمة الأدب السعودي بالشكل الذي يرتضيه هو، وبالطريقة المنهجية التي يؤمن بأهميتها، ولقد بدا ذلك واضحاً منذ بداياته، حين درس (القرشي والعوّاد) في رسالة تكلّمت مؤخّراً بعد أربعين سنة من الصمت التام، ثم أكّد ذلك حين درس - بتوسّع - الأدبَ الحجازي الحديث: شعره، وروايته، وقصته، ومسرحيته...، ولم يترك جانباً منه - في الحقل التاريخي خاصة - إلا ودلّ عليه، ثم أكمل - من بعد - هذا المشروع بجملة من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة والتي رصد فيها جوانب كثيرة - ذات بعد تاريخي - في الحركة الشعرية والثقافية في كلٍّ من نجد والمنطقة الشرقية - وربما عداهما -.
هذا كلُّه لم يروِ ظمأه، ولم يشبع رغبته، ولم يقنعه بالمكانة السامقة للأدب السعودي - كما يرى -، فراح يحثُّ طلبته النجباء على إكمال مسيرته، وصار كما الأمير يرسل رجاله إلى الأقاليم، بعث (إبراهيم المطوّع) إلى القصيم فعاد برسالة ضخمة درست الشعر والشعراء في تلك المنطقة موضوعياً وفنياً، وبعث (إلهام الخليفة) إلى المنطقة الشرقية فعادت تحمل دراسة مماثلة، وأسند إلى (خالد الحافي) مهمّة دراسة الشعر في منطقة الرياض - رغم اعتراض الكثيرين - فنهض بها وأدّى، وهاهو يجهِّز (عبد الله الغفيص) ليرسله إلى المنطقة الشمالية دارساً، هذا بالإضافة إلى دعمه ومساندته تربوياً وإدارياً للدراسة التي تناول فيها (حسن النعمي) الشعر في جازان، وأعرف أنه ما زال يبحث عن الطلبة المقتدرين؛ ليطرح عليهم فكرة دراسة الشعر في كلٍّ من (نجران) و(عسير)؛ ليكمل بذلك مشروعاً قضى عليه أربعين عاماً يؤمِّل ويتمنى.
لم يكتفِ (الفوزان) بالدراسات المسحية المدخلية، فحثّ جملة من طالبيه وطالباته - خاصة في (الماجستير) - على دراسة أعمال الأديب الواحد، فكان أن انصرف (إبراهيم المطوّع) إلى (عبيد مدني)، و(عبد الكريم العبد الكريم) إلى (أبي تراب الظاهري)، و(عبد الله الفوزان) إلى (محمود عارف)، و(حمود النقاء) إلى (عبد الله الزامل)، كما انصرف (آخرون) إلى (آخرين)...
إذن نحن أمام رجل التزم منذ بداياته خطاً واحداً، وظلّ منقطعاً إليه؛ إيماناً منه بأنّ مجال الأدب السعودي - والشعري منه خاصة - لما يزل في حاجة ماسّة لمزيد عرض وتأمّل، خاصة فيما يتعلّق بالجانب التاريخي، وبالطريقة المسحية الأفقية.
من مجالسه الخاصة، ومن استماعي إلى نصائحه التربوية لأبنائه الطلبة، ودعوتهم إلى الاهتمام بأدب بلادهم، وجعله نصب أعينهم، وتذليل جميع العقبات التي تعترض مسيرتهم، استطاع أن يستعرض الأدب بطريقة هادئة، وبروحٍ جماعية أيضاً، في مدّة تقارب نصف قرن من الزمن...، وإن كانت هذه الدراسات - من وجهة نظري - لم تقتحم النصّ، ولم تعافس قضاياه الأخطر...
لكن ثمة سؤال يجب أن نطرحه هنا:
أين هي هذه الدراسات؟
للإجابة عن هذا السؤال سنقسم تلك الدراسات قسمين: دراسات طبعت على نفقة أصحابها، أو على حساب مؤسسات ثقافية جادة، وأخرى غير قادرة على النهوض بنفسها، ودراسات لم يتمكّن أصحابها من طباعتها لأسباب كثيرة ليس هذا مقام عرضها...، وفي هذين القسمين، وفيما بينهما، ضاعت الفائدة المرجوّة منها، لو قُدِّر لها أنْ تُطبعَ في كتابٍ واحدٍ، أو تحت سلسلة واحدة...
من هنا رأيتُ لزاماً عليَّ أنْ أستغلّ هذه المقالة، وأدعو - من خلالها - معالي مدير جامعة الإمام أولاً، ومؤسساتِ النشر كلَّها - أو الفاعلة منها - إلى أن يلتفتوا إلى هذه الدراسات، ويقوموا بجمعها في سلسلة واحدة تحت اسم (الموسوعة النقدية للشعر السعودي)، بشرط أنْ تحمل عدداً من الضوابط، أقترح منها:
1 - أن يُكلّف الباحثون والباحثات الذين درسوا الشعر السعودي بمراجعة دراساتهم، وتخليصها من المباحث، أو الملاحق، أو الشروح، غير المفيدة، ومن الممكن أن يُحدّد لكلِّ واحد منهم قدرٌ من الصفحات لا يسمح له بتجاوزها.
2 - أن يكلّفوا أيضا بتذييل دراساتهم ببليوجرافيا عما أصدر من دواوين شعرية حتى نهاية العام المنصرم، ويشترط في هذه الببليوجرافيا أن تكون مصاغة بطريقة علمية.
3 - أن يُكلفوا بالعودة إلى آراء أعضاء لجنة المناقشة، والإفادة منها، ومن الأسئلة التي أثاروها، وأن يقوموا بإجراء شيء من التعديل في دراساتهم انطلاقاً من ذلك كلِّه.
4 - أن يُكلفوا بوضع ملحق يتضمّن تعريفاً موجزاً بالشعراء، يحوي - ما أمكن - أسهل الطرائق لمراسلتهم، والوصول إليهم (وحتماً سيكون هذا مفيداً للإعلاميين والمؤسسات الثقافية أيضاً).
5 - بعد جمع هذه الدراسات يتمُّ عرضها على لجنة علمية متخصصة في الجامعة لإبداء الملحوظات العلمية حولها، خاصة بعد أن أخضعت هذه الدراسات للغربلة والتمحيص.
6 - يوضع للدراسات اسم موّحد، ويتمُّ تقسيمها عدداً من الأقسام، على النحو التالي:
- الشعر في المنطقة الغربية (إبراهيم الفوزان)
- الشعر في منطقة الرياض (خالد الحافي)
- الشعر في منطقة القصيم (إبراهيم المطوّع)
- الشعر في المنطقة الشرقية (إلهام الخليفة)
- الشعر في المنطقة الشمالية (عبد الله الغفيص)
- الشعر في منطقة جازان (حسن النعمي)
ومن الجميل في الأمر أنّ هذه الموسوعة ستجمع عدداً من السمات، لن تتوفّر في موسوعة أخرى، أذكر منها - على سبيل المثال -:
1 - أنّ هذه الدراسات - وإن أنكر بعضهم - كانت في الأصل مقترحاً قدّمه شخص واحد هو الدكتور (إبراهيم الفوزان).
2 - أنّها أفادت منه ومن أساتذة محددين داخل قسم الأدب في صياغة الخطّة العلمية، ولربما أسندت إليه في الإشراف أو المناقشة، وهذا يعني أنّ هناك خيطاً - على مستوى المنهجية - ينتظمها.
3 - أنها أنجزت من أجل الحصول على درجة علمية، ولم تكن بهدف التأليف الحرّ، أو المتاجرة، وجميع أصحابها إنما كتبوها بغية أن تحمل أسماءهم في المستقبل؛ ولذا فقد بذلوا فيها جهداً مشكوراً - وإن اختلفنا معهم في بعض طرائق التناول هنا أو هناك-.
4 - أنها مرّت بعدد من الأقسام والمجالس العلمية، وخضعت لفحص دقيق على أكثر من مستوى...
5 - أنّ بعض هذه الدراسات طبعت، وحقّقت حضوراً جيّداً لدى المتخصصين.
لأجل ذلك كلِّه - ولأشياء أخرى تجاوزتها - أشرت إلى هذا المشروع الأكاديمي غير المباشر، والذي غفل عنه كثيرون، وانتهزت الفرصة لأوجه هذه الدعوة، راجياً أن تحظى بالمراجعة أو الدراسة من قبل إدارة الجامعة - حيث إنها المعني الأول -، أو من قبل المؤسسات الثقافية، ودور النشر الوطنية...
هذا إلى كوني أدعو إدارة الجامعة إلى إقامة حفل خطابي لتكريم هؤلاء الدارسين وأستاذهم، وجعل هذا الحفل شبيهاً بالمنتدى الثقافي المفتوح، يُكلّف فيه المكرّمون بإلقاء أوراق تحكي لنا حكاية هذا الإنجاز، حتى وإن اختلفنا معه في المناهج أو المنهجيات أو النتائج.
بريدة
alrafai16@hotmail.com