كيف نرى أنفسنا في مرآة الأرقام الروسية؟ التاريخ: 29 كانون الثاني 2010. الذكرى: 150 عاماً على ميلاد أنطون تشيخوف، الكاتب المسرحي والقاص العظيم. الحدث: احتفالات وعروض مسرحية في كل مكان.. وثمّة شيء آخر! ففي هذا اليوم بالذات حلّقت في سماء روسيا المقاتلة الجديدة (سوخوي)، من الجيل الخامس الخفي على الرادارات العسكرية. وأمّا الرادارات الثقافية في العالم فراحت تلتقط الأرقام التي أعلنها الرئيس الروسي في اجتماعه مع مسرحيين كبار، يعيدون إنتاج تشيخوف ومعه إنتاج الروح الحرّة، تلبية لنداء تشيخوف نفسه (اعصروا العبد من ذواتكم قطرة فقطرة).
في روسيا اليوم ستمائة مسرح تلتزم نظام الريبيرتوار (لدى كل منها برنامج مسرحي يقدّم عروضاً لمسرحيات مختلفة موزّعة على أيام الأسبوع، على مدار العام)، إضافة إلى هذه الستمائة هناك آلاف المسارح الأخرى التي لا تلتزم هذا النظام وتقدّم عروضاً مختلفة في غير قليل من أيام السنة، وأمّا مسارح الريبيرتوار، التي ذكرها الرئيس، فتقدّم وحدها حوالي مائة وثلاثين ألف عرض مسرحي في العام، يَؤمّها أكثر من ثلاثين مليون مشاهد.
وليس لعلاقة بين المقاتلة سوخوي وسيّد المسرح والقصة أنطون تشيخوف، جاءا معا في العنوان، إنّما لثقافة تعيد إنتاجهما معاً ليكونا حاميين لشعبهما في صراعه من أجل البقاء بيولوجياً وثقافياً - حضارياً. وليس لأحد، إلا منتظر الموت، أن يكون خارج الصراع الثقافي والحضاري. يكفي لتقبّل الفكرة أن ننزع الشحنة السلبية عن كلمة (صراع). ولكي لا يبتئس المتمسكون منّا باللحم (الأحمر) والدم (الأزرق) معياراً للحياة، المستكينون إلى أننا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..}، ناسين أن تمثّل القول العظيم يكون بسعينا نحو أن نصير باستمرار إلى الأفضل وليس باطمئناننا إلى أزلية أفضليتنا وأبديتها، بصرف النظر عن أفعالنا..
وللمطمئنين، منّا، إلى صدارة لا تزول وإلى حضارة آيلة إلى الزوال، وللقلقين من فكرة الانقراض، التاريخ يقول: نحن باقون بيولوجيّاً، باقون ككائنات تأكل وتضحك وتبكي وتبصق وتلقي بمخلّفات حياتها في الشوارع وتصفّق، وتتناسل. وما أبأس أن تكون مخلفاتنا الشاهد الوحيد على حياتنا! وأمّا القائلون بانقراضنا فيعنون انقراضنا حضارياً، انقراضاً تلقائياً وتدريجياً، نؤول إليه مع تضاؤل مساهمتنا الحضارية نحو أن تبيد فنبيد، وليس بمعنى زوالنا ككتل من اللحم تمشي على الأرض. لكن البقاء ثقافياً -حضارياً تحدده أرقام تُنتَج اليوم ولا تُنبش من ماضٍ عهيد، التغنّي به يفيد في معنى الإفلاس أكثر من إفادته في معنى النهوض.
خرجت روسيا من تحت أنقاض حربين مدمّرتين وانهيار، بصناعةٍ عظيمة ومسرح عظيم.. ومثلها خرجت ألمانيا المهزومة، ومن تحت الدمار النووي خرجت اليابان! فمتى نخرج نحن من تحت أنقاض عقولنا؟ أم أننا تمجيداً لكنز القناعة (الذي لا يفنى) نكتفي بالجانب البيولوجي من الحياة، تاركين المداءات لغيرنا....!؟
منذر بدر حلّوم