القصائد المؤثرة يتم تهريبها من السجون، ويتشارك الجنود في قرائتها في ساحات القتال تحت قصف النيران، وتنتقل من يد إلى يد، ومن جيل الى جيل، وتخدش على الجدران، وتكتب في دفاتر اليوميات، وتخربش حتى في دفاتر (وصفات تحضير الطبخات) recipe في مطابخ ربات البيوت، وتوزع على زوايا الشوارع، وتحمل من شاطئ إلى شاطئ عبر البلدان بواسطة المتشردين كما حدث في أمريكا في قطارات الشحن البخارية خلال الثلاثينيات، وتسكن أيضاً الأماكن العامة، ويُهمس بها في الأذنين، لتتمكن بذلك من وصف أحداث بدقة غير قابلة للوصف بطرق أخرى، وجمع أناس متفرقين في الحياة نحو هدف واحد بطريقة مذهلة. نكتها تضحكنا. صدقها ورؤيتها الواضحة للحقيقة تلقط أنفاسنا. تعقيدها الموجز يوصل الكثير، وبقوة أكبر من أي قطعة من النثر. قدرتها على إثارة المشاعر غالباً ما يجعل منها مصدراً للخبرة والوعي بطرق أكثر تفسيرية لا تملكها الكتابة.
ومن الواضح أن الشعر يغير اللغة. وهذا التغيير الثقافي يؤثر (بسرعة) على ما هو مسموح، وما يعتبر زائداً أومقبولاً لغوياً. أما ما يحتاج (دهورا) لكي يجدد أو يحسن اللغة فيستقر ويعشعش بأمان وكسل في (المعجم اللغوي).
ومن الواضح أيضاً أن كل أداة تواصلية جديدة - البرق والهاتف والحاسوب، والهاتف الخليوي، و(آي بود)، و(بلاك بيري)، ومؤخراً (كيندل) (جهاز قراءة الكتب إلكترونياً)، وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي يتم تطويرها باستمرار يمكنها تجديد الشعر. وهناك كذلك الشات (الدردشة) عبر النت، و(التويتر) عبر النت كذلك، وهناك أيضاً الرسائل النصية عبر الجوال، فجميع تلك التقنيات تدفع اللغة نحو الإيجاز، وتحثنا أن نقول ما نعنيه مباشرة، وفوراً. ولكنها أيضاً تفعل المزيد في اللغة. تصميم صفحات الجرائد وإيقاعها غير المحسوس ينبثق ببطء من إيقاع الحياة المعاشة. ولهذا صرنا مؤخراً نتعجب من سحر المخطوطات القديمة وفتنة الخط اليدوي الذي انقرض حالياً، ولكن هذه التقنيات التواصلية التي تتطور بسرعة تواصل تطوير نفسها باستمرار وتغيير طريقة الحديث مع بعضنا بعضاً. طريقة قراءة الشاعر جهراً لجمهور قد يكون بعضه أمياً، وطريقة تجاوب الجمهور معه يمكنهما أيضاً أن يغيرا القصيدة إلى الأبد. والمقصد هو التالي:
ربما كان سر عظمة الشعر هو في قدرته على اختزال فكرة أو مشاعر إلى الحد الأدنى من التعبير مما يعطيه مثل هذا البقاء السرمدي في السلطة الأدبية.
لقد وصلت الى مملكة الشعر في وقت معين، وخلال سلسلة من الأماكن. ومثل العديد من أبناء جيلي، أجبرت في المدرسة على حفظ قصائد مملة ومضجرة لم أكن أفهمها وهذا لم يعجبني طبعاً. تلاوة أحد المدرسين السقيمة لقصائد كلاسيكية رائعة للشاعر (هنري وادسورث لونغفلو) حرمتنا من الاستمتاع بجمالها ومن فهم المعنى واستيعاب الفائدة. وقراءة مدرس آخر لقصيائد (إدغار آلان بو) جعلتني أنفر من حصة الشعر. وأصبحت سونيات شكسبير sonnets (السونيت: قصيدة قصيرة) الرائعة مملة وغير مفهومة. وللأسف أقنعتني هذه التشويهات الشعرية السائدة في المدارس الحكومية بأنني أكره الشعر آنذاك.
أول مرة شعرت بأن قصيدة سببت لي تغييراً جذرياً كانت بعد بضع سنوات عندما هربت من الجامعة في السنة الأولى في العام 1956. وكان ذلك في حفلة في شرق مدينة ألبوكيركي، حيث قرأ أحدهم بصوت عالٍ قصيدة (عواء) howl من ديوان (عواء وقصائد أخرى) كان قد نشر حديثا عبر دار (سيتي لايتس) (أضواء المدينة) وكان ديواناً صغير الحجم للشاعر الأمريكي الطليعي ألآن غينسبرغ. لقد شعرت بأني تمزقت بعد سماعها، ليس فقط بسبب كلمات تلك القصيدة بل أيضاً قوة وروح نبرتها وإيقاعها، والأهم ما كشفته لي عن خيبة أمل جيلي في ظل خلفية وظروف أحداث الخمسينيات (المكارثية) في الولايات المتحدة من نفاق وقبح وأكاذيب ووجوب اتباع العرف المجتمعي السائد. وكذلك ما كشفت لي عن تناقضات نفسي وذاتي.
كتبت رسالة إلى الشاعر جينسبيرج، عبر دار (سيتي لايتس). قلت له إنني سأنتظره في زاوية شارع معين في سان فرانسيسكو بتاريخ كذا وكذا. أذكر أنني قدت السيارة طوال النهار وطوال الليل من مدينة ألبوكركي إلى سان فرانسيسكو بدون أدنى شك بأنه سيكون هناك في انتظاري في ذلك الوقت. وفي الوقت المحدد ذهبت الى زاوية ذلك الشارع وانتظرت، ولكن جينسبيرج لم يحضر. وبعد سنوات، عندما أصبحنا أصدقاء في مدينة نيويورك ضحكنا معاً بسبب (جهلي الجغرافي الساذج) لأني وقفت وانتظرته في المكان الخطأ بينما كان ينتظرني بالفعل في المكان الصحيح في سان فرانسيسكو.
ولكن قصيدة (عواء) فجرتني وفتحتني وعرتني أمام نفسي. وهذا أعتقد أنه واحد من الأشياء الذي يجب أن تفعله القصيدة الناجحة.
في عام 1961 ذهبت إلى مدينة مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك في بداية رحلة استمرت ربع قرن ستشمل كوبا، فيتنام الشمالية، بيرو، ونيكاراغوا. ولوحدي في المدينة الجديدة، عثرت على ميدان (زونا روسا) الذي يرتاده الأدباء والرسامون، وعثرت على شقة الشاعر الأمريكي فيليب لامانيتا وزوجته السيدة لوسيل. وفي بعض الليالي، كانت مجموعة من الشعراء الشباب يجتمعون في شقته من المكسيك وبلدان أخرى من أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن القليل منا كان يقرأ أو يتكلم بلغة الآخرين بشيء من الطلاقة، كنا نتشارك بفرحة في قراءة وسماع القصائد الجديدة، ونحس بإيقاعات غير متوقعة وغير مألوفة في مواضيع معاصرة وغير معهودة. هذه الصالونات (المرتجلة) أكدت لي بوجود حاجة ضرورية لمنتدى مستقل لكي ننشر، ونترجم، ونتعارف على أعمال بعضنا.
ولهذا، قررت أنا مع الشاعر المكسيكي سيرجيو موندراغون إنشاء مثل هذا المنتدى. لقد كانت تلك فترة الستينيات المجيدة والنشيطة وكنا في أحد أهم المراكز الثقافية النابضة في تلك القارة. أسسنا وحررنا مجلة (إيل كورونو إمبلومادو) (أي (القرن المريش) بالعربية) كمجلة أدبية ثنائية اللغة الأدبية. وفي تلك المجلة التي أصدرتها من المكسيك باللغتين الإنجليزية والإسبانية من 1962 إلى 1969، سرعان ما نشرنا فيها مزيجاً منوعاً من أعمال شعراء مستقلين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك آلن جينسبيرج مترجماً للمرة الأولى باللغة الإسبانية، وإرنستو كاردينال مترجماً للمرة الأولى باللغة الإنكليزية. وواصلت المجلة الصدور – رغم استمرار تبعات الحقبة الماكارثية المرعبة- بأعجوبة لمدة ثماني سنوات ونصف السنة حتى توقفت عام 1969، وأنتجنا أعداداً فصلية خاصة من 200-300 صفحة في المتوسط. لقد كانت مجلة (إيل كورونو إمبلومادو) نقطة محورية في نهضة جيل كامل لأنها نقلت الأدب من الأكاديمية، إلى الشارع والمقهى والمنتزه حيث مراكز الإبداع والتغيير.
القراءة والاستماع إلى قدر كبير من الشعر باللغة الإسبانية أيضاً أعطاني شيئاً مهماً. أعتقد أن معرفة أكثر من لغة واحدة يثري إلى حد كبير القدرة على استكشاف كل منهما. لو كنت قد تعلمت أكثر من لغتين، لاستفادت علاقتي مع اللغة نفسها أكثر من ذلك. قضاء تلك السنوات الثماني في تحرير مجلة ثنائية اللغة لم يضعني فقط على اتصال مع شعراء يكتبون باللغتين الإنكليزية والإسبانية فقط ولكن أيضاً مع ترجمات من لغات أخرى، ومنحتني (علاقة حميمة) مع الكلمة المكتوبة والمنطوقة من المستحيل وصف أهميتها وتأثيرها بالكلمات.
وفي ذلك العصر الذي لم يكن فيه إنترنت، كان كل من الكتابة والنشر يعتمدان على أنظمة بريدية حكومية متخلفة ورديئة، ويعتمدان على مكينة صف وصب الحروف البدائية (لاينو تايب) Linotype وقدرات مطبعة صغيرة يديرها شخص واحد غالباً. وفي بعض الأحيان، كنا نعتمد كثيراً على مكالمات هاتفية دولية عبر البحار. لقد كنا نزهو ونفخر باستقلالنا. وكنا أيضاً نزور كل يوم مكتب البريد في الحي حيث نجد العشرات من الرسائل والمخطوطات تنتظرنا بسعادة وفرح من كل أنحاء العالم. كانت وسيلة الدعاية الوحيدة لنا هي السير في الشوارع ومحادثة المارة عن مجلتنا!! كنا نوزع بحماس مجموعة من النسخ على المكتبات، ونجلس على أرضية غرفة الجلوس لتعبئة أوامر (شراء نسخ) لنرسلها بالبريد إلى مكتبات في كل مكان في العالم.
في عام 1961، عندما بدأت في كتابة الشعر في بلد ما يزال يخرج ببطء من حقبة (مكارثية) مرعبة، فإن التواصل مع الشعراء الأميركيين اللاتينيين علمني أن (الشعراء الجيدون يمكنهم بالفعل الكتابة عن أي شيء). كنت للتو قد استوعبت مجبرة (الفكرة المكارثية القمعية) في الخمسينيات بأن (السياسة لا يمكن أن تكون جزءاً من الشعر) لأن: (الشعر الجيد، كما حذرنا الأكاديميون، يجب أن يكون (ما بعد سياسي)!!! والمفارقة أن ذلك كان بعكس ما فهمه الشعراء في أمريكا اللاتينية وأجزاء أخرى من العالم بأن الخطر الحقيقي الذي يهدد (جودة الشعر) ليس الخوض في السياسة كما حاول الأكاديميون الأمريكيون المكارثيون إيهامنا بل هو: التقليد، والمبالغة في المشاعر/العاطفة، والإبتذال، والكذب/الخداع، وعدم احترام قيمة (الكلمة) كأداة للتعبير ثم التغيير!!!
كتبنا في المجلة عن جميع ما كنا نعرفه، وعن أهم مطلب وحاجة نسعى لها في خبرتنا الشخصية التي يشاركنا فيها العديد من الشعراء الشباب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وهي (الحاجة الماسة للتغيير الاجتماعي).
واكتشفت أيضاً في أمريكا اللاتينية أهمية (التقاليد الشفوية) (الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي) الموجودة في جميع أنحاء العالم بالطبع بما في ذلك وبغزارة في بلدي: الولايات المتحدة. ولكن ربما لأن (التقاليد الشفوية) في الخارج كانت أكثر قيمة من الناحية الثقافية، فإن الشعراء الأجانب الذين التقيت بهم في الستينيات كانت أقرب لهم مما كانت لدي. لقد استكشفوا إيقاعات الكلام لشعوبهم وضمنوها في أعمالهم. وعندما بدأت العمل في التاريخ الشفوي وخاصة مع النساء، بدأت أيضاً فهم أهمية (الرطانة) و(الجعجعة) المحلية واللهجة والايقاع، والنبرة ومقام الصوت في عملية انتقال الأفكار الحية، وبدأتُ في دمج أنماط حديث الناس العاديين في شعري.
عندما وصلت لأول مرة إلى مدينة نيويورك كشاعرة مبتدئة في أواخر الخمسينيات، حثني وشجعني الروائي والمسرحي بادي تشايفسكي على قضاء ساعة أو نحوها كل اليوم ك (مستمعة) في زاوية شارع مزدحم وسط نيويورك، ثم تأمل كمية ما تختزنه ذاكرتي بدقة من أحاديث الناس العابرة بعد العودة الى البيت. ولذلك، بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى أمريكا اللاتينية، كنت قد طورت أذنين متمرستين على تسجيل الحديث الشعبي العابر.
ونعم بكل تأكيد، لقد كنا نعتقد بسذاجة وصدق أن الشعر (لوحده) يمكن أن يغير العالم، وكتبنا ذلك في الكثير من افتتاحيات المجلة، وانعكس ذلك أيضاً في القصائد التي نشرناها لشعراء من مختلف الفئات (قساوسة كاثوليك، وأعضاء ميليشيات يسارية، ومشعوذين من السكان الأصليين، وطلاباً، وباحثين أدبيين، وعمالاً وعاملات عاديين) جميعهم رددوا وكرروا صدى هذه الفكرة بشكل أو بآخر.
ويمكنني الاعتراف الآن: لقد كنا بالفعل صغاراً وسذجاً موهوبين ب (الطاقة والإثارة) أكثر من فهم وتصور واقعي/عملي لأهمية أفكارنا في المخطط الأكبر للأحداث في الكون. لقد عرفنا بالفطرة السبل التي (تتجسد) و(تتحرك) فيها الكلمة - وهو شيء عرفته ومارسته العديد من ثقافات العصور السابقة.
أفضل القصائد تسكن (كرة سحرية) حيث تتحول الكلمة وتتبدل إلى طاقة والطاقة تعيد التجمع مجدداً بطرق لا نفهمها تماماً. هذا الغموض في حد ذاته هو جزء من سحر القصيدة، أو ما يمنحها قوتها وسلطتها الأدبية وجبروتها الفكري. اللغة، والصوت، و(الصمت) هي أمور - بالإضافة إلى المعنى – تتكون من ذرات وجزيئات متناهية الصغر، مشبك عصبي في جسم القصيدة، ذاكرة، موسيقى، نبض، لون، وضوء. تجميع ومزج هذه العناصر في وسائل جديدة ومختلفة، يتبع بدوره مسارات جديدة ومختلفة من وإلى القصيدة.
وبعد أن نضجت الآن، أعترف أنني لم أعد أعتقد أن الشعر (وحده) يمكنه أن يغير العالم. ولكن رغم هذا، الشعر لا يزال مهماً ومؤثراً، ربما أكثر مما نظن أننا نعرف أو ندرك. في الحقيقة، نحن نتجاهل أو نشطب صفاته غير القابلة للقياس، وحدسه، وسحره مما يعرضنا للخطر خاصة في الأزمات. في الواقع ولكي أختم، أنا متأكدة تماماً أن الشعر كان ولا يزال وسيواصل القيام بدور مهم في المجتمعات الحية، النابضة، والمتغيرة باستمرار خاصة من قبل أولئك الذين يأملون أن لا نهلك جميعاً بسبب (جهلنا) و(جشعنا) و(لامبالاتنا)!!
* * *
ألبوكركي، ولاية نيو مكسيكو بقلم - مارغريت راندال
ترجمة وتعليق: حمد بن عبد العزيز الحمد العيسى، كاتب ومترجم سعودي من مدينة الخبر
hamad.alissa@gmail.com
المغرب