تسلقت المنزل حتى وصلت إلى سطحه بهدف معالجة ماسورة الماء التي امتنعت لسببٍ لا أدريه عن السماح بمرور الماء من الخزان الأرضي إلى الصفيحة المعدنية أعلى المنزل. تتبّعتُ الماسورة وعندما أدركت موطن الخلل، أدرتُ مفتاح المَحْبس الذي حُلّ مسماره لكي يدفع بالماء إلى الصفيحة.
في الحي الذي يسكنني وأسكنه منذ أن ولدتني الحياة، خوف رجال الحي من الشرطة يفوق خوف النساء. الأطفال وحدهم لا يهابون الشرطة. وعندما لم يسمى عمدة جديد للحي بعد وفاة العمدة القديم مفتاح، فإن ظهور الشرطة المتقطع في الحي أصبح مألوفاً. وما إن تزور سيارة الدوريّة شوارعَ الحي حتى تُنسج ألفُ حكاية وحكاية. لن يسلم أحدٌ قُدّر له أن يركب سيارة الدورية من نعوت الشك والريبة التي سيظل يشم رائحتها تغازل أبواب منزله كلما دخل المنزل أو خرج منه.
كنت سمعت الماء للتوّ يصبّ في الصفيحة حينما أتوا لاستدعائي تلك العشية. رأيت سيارتهم من سطح المنزل وهي تقف لدى بابي، فأخذت تأكلني الظنون وأنا آكل ذاكرتي بِهَرَشٍ بحثاً عن خطيئة غشيتُها أو ذنب ارتكبتُه في يوم غابر. ولأنه طال بي إيجاد أي سبب قد أُستدعى للشرطة من أجله، لم أُفِق إلا على صوت طرقاتهم على الباب بقوة. لا أمتلك سيارةً، وهذي مشكلة موظف البنك الذي وعدني منذ أكثر من ثلاث شهور بأن يوفر لي سيارة من النوع الذي اخترته، لكنه -على ما أظن- آثر ألا يصدمني بالسبب الحقيقي وهو راتبي الضئيل الذي يذهب أكثر من ثلثِه في قرض قديم أدفعه للبنك نفسه. ولأني لا أملك سيارةً فقد اقتادني الجندي قبل أن يتفحص هويتي واقتاد معي سُمعتي فأركبني الصندوق الخلفي لسيارة الدورية.
كان ذلك الوقت الذي تفوح فيه قهوة المساء بلا حدود. تنطلق روائح البن والهيل والزنجبيل الفتيّة من كل بيت فتسكر شوارع الحي الخدرة التي لا يعبث بخدرها غير الأطفال بلهوهم وعبثهم. اخترقت سيارة الدورية حشداً من أولئك الأطفال فأخذوا يجرون خلف السيارة كجِراء نشيطة. أخذتُ أخفي رأسي الأعزل بين أكتافي خشية أن يلمحني أحد الجراء. لكن صيحة أحدهم اخترقت سمعي كما لو اخترقت صدري رصاصة:
- أبو ناصر! أبو ناصر يا عيال!..
لم يتسن لأحد من عائلتي، لا من قبلي ولا من بعدي، دخول مركز الشرطة. لكني ربما أصبح الحلقة الفاسدة في سلسلة العائلة بدءاً من اليوم. عند دخولي المركز أُمرت بالدخول إلى مكتب المدير دون أن يصطحبني الجندي الذي أتى بي من منزلي ويبدو أن مهمّته انتهت بإحضاري. وللمرة الأولى أعرف أن مدير المركز الذي قام وصافحني هو جار لنا انتقل إلى حيّنا قبل عام. جال نظري بسرعة البرق في المكتب. في طرف منه طُويت مَرْتبةٌ إسفنجية ووسادة فوق سرير حديدي متواضع، وفي طرف آخر ملفاتٌ رُصّت داخل كرتون حتى تجاوزت فتحته. رشف مدير المركز الرشفة الأخيرة من الشاي في فنجانه وصب لي في نفس الفنجان، فأخذته من يده وأنا أحرص على ألا تلتقي عيناه بعينيّ.
بعد سلامٍ مقتضب، أخذ يسألني عن الحي ومن مات ومن بقي من سكانه. عُمير يشتغل في البلدية لسنين طويلة، لكنه أقيل من عمله بعد سوء تفاهم مع ضيف الحي الجديد رابح. تقول جارتنا أن السبب الفعلي هو أن الأول غرس عدداً كبيراً من شجيرات البلدية في استراحته فوشى به الثاني. والحسوني بعد تقاعده المبكر من العسكرية يأخذ ثلةً من الشبان المتحمسين لعواطفهم ويخرجون إلى البر كل ليلة. والعبدة يرتاد بيتها الكثير من كبار السن ويخرجون وهم لا يحملون في أيديهم شيئاً.
هممت بسؤال مدير المركز عن سبب وجودي هنا، لكني خشيت أن أسمع منه توبيخاً أو كلمة قارعة، فواصلت حديثي عن معظم سكان الحي. وعندما اعتقد أني انتهيت، طلب مني أن أكمل فنجاني وألا أخبر أحداً بالأسئلة التي ألقاها عليّ. شعرت لحظتها أنه لفظني دون شكر بعدما امتكّ عظمي.
خلاص! أطبق مذكرةً باليةً ووجدت نفسي أقود خطاي إلى البوابة للخروج. لم يعرض أحدٌ أن يأخذني إلى منزلي مثلما أتوا بي منه، والحقيقة أنني لن أقبل بذلك لأني لا أريد أن يزيد عدد الحكايات التي ستنسج عني وعن جرمي. فالذي نسج من بعد صلاة العصر حتى الآن يكفي ويزيد ، عشرون حكاية أو ثلاثون وقد تصل إلى مئة حكاية تنتظرني.
آثرت أن أعود للمنزل مشياً، فتجاوزت البوابة وبندقية عابسة تخترق نعاس الشمس التي تؤوب إلى مخدعها. وعندما وصلت للشارع أدخلت يدي عبثاً في مكانٍ قصيٍّ من جيبي، فعثرَتْ أصابعي على مفتاح المَحْبس الذي تركته مفتوحاً. حينها فقط توقفت بالقرب مني سيارة مسرعة أوثقت مكابحها بسرعة. جعلتُ أدقق النظر في سائقها، إلا أنني لم أستطع تذكره قبل أن يأتيني صوته:
- سلامات، يا أبو ناصر، وش اللي جابك للشرطة؟!