Culture Magazine Thursday  01/04/2010 G Issue 304
فضاءات
الخميس 16 ,ربيع الثاني 1431   العدد  304
 
أمام مرآة «محمد العلي»
الانشغال بتجلية « المفاهيم»
علي الدميني

يشغل تحديد المصطلح والمفاهيم موقعاً مركزياً في فكر ونتاج محمد العلي، ولذلك يصطحبنا في كل كتاباته للوقوف معه على إشكالية المفاهيم والعناية باستقصاء حمولاتها المتعددة في القاموس وفي سيرورة التاريخ. وسوف نجد أن هذا المنحى المنهجي يكاد أن يخترق عمودياً كل «محاضراته» ومقالاته المطولة التي نقرؤها في «مفهوم التراث «، و»المثقف والأيديولوجيا»، و» حول الغموض الشعري»، و» مفهوم الوطن «، و» نموالمفاهيم «.

والذين يعرفونه عن قرب يعايشون «دقّته « في تمحيص الآراء والأخبار، والمفاهيم، والمصطلحات، وعدم تقبّله لها على إطلاقها، ومن ذلك توقّفه، أمام السؤال المطروح عليه، أوعلى الجالسين معه، ومن ثم يقوم بتعديل صياغة السؤال لا من الناحية اللغوية، ولكن من ناحية التماسك المنطقي لمضمونه.

تلك خصيصة فطرية وثقافية يتميز بها « العلي»، ولكنها لم تكن ستحقق فاعلية حضورها إلا عبر مروره بمحاضن الدرس الأول « الفقهي»، والدرس الثاني «اللغوي»، والدرس الثالث « الشخصي» الذي انشغل فيه طوال حياته بالقراءة والمتابعة والحوار، وتعويد الذات على احتمال قسوة الاختلاف، ومراجعة القناعات، والعبور من ضفة ضيّقة إلى أخرى أكثر انفساحاً، ليتجلى دور كل تلك المقومات الذاتية والمحاضن الثقافية في كل نتاجاته الإبداعية، والنقدية، والفكرية.

ما الذي يقف خلف هذا الشغف «بالمفاهيم «؟

حين يقارب «العلي « تحليل المصطلحات والمفاهيم التي تبلورت وفق سياقات عديدة ورؤى متباينة، فإنه غالباً ما يدخلنا في حقل قراءته المنتجة، عبر السؤال التالي: لماذا اختلفت هذه الرؤى وهذه المواقف حول قضية ما: عقدية أوفكرية، أونقدية ؟

وفي طريقه للبحث عن جذور الأسباب، يأخذنا إلى مناطق السياقات التي أدت إلى ذلك الاختلاف، ليفتح أمامنا آفاقا للتأمل والنقد والشك، ليس في المفاهيم وحسب، وإنما في السياقات الاجتماعية والثقافية التي أنتجتها، وسوف نشير إلى ذلك عبر الوقفات التالية:

1- تطور المفاهيم، وركودها:

• - في دراسته المعنونة ب» المثقف والإيديولوجيا»، يقول: « المفردات في حركتها حتى تصبح مفهوماً، لا تنضج دفعة واحدة.. لذا فهي ذات طبيعة تراكمية.. من هنا يصبح تعريفها اقتناصاً لما اكتمل من هذا التراكم، فإذا ازداد أصبحت في حاجة إلى تعريف آخر.. وهكذا (محمد العلي شاعراً ومفكراً - ص 207).

• وفي محاضرته « الفرق بين الرؤية والموقف «، يقول: « إن أي سؤال يحتفظ بتماسكه فترة من الزمن، فمعنى ذلك: أن الإجابة عنه لم تزل ناقصة» (مجلة النص الجديد - العدد السادس - السابع 1997م).

• أما في محاضرته في النادي الأدبي بالدمام في 7-3-2007م بعنوان « نموالمفاهيم «، فإننا نمضي معه للتعرف على سؤال المفهوم، ومركزيته في حياة الإنسان والمجتمعات كمعنى، وعلى ضرورة تطوره مع متغيرات الزمن، حيث يقول:

- المفهوم فلسفيا هو» مجموع الخصائص الموضحة لمعنى كلي « أما التعريف الذي اقترحه، والأكثر وضوحاً فهوأن « المفهوم هوتحول المفردة اللغوية إلى مفردة تاريخية « (منبر الحوار والإبداع - تاريخ 23-3-2007م - ص 1).

- « أول اشتياقات الإنسان الروحية هوالبحث عن المعنى...لأن الوصول إلى معنى الوجود الإنساني وإلى معارفه وتصوراته وقيمه وحاجاته الروحية والبدنية، هوالهدف الأول للإنسان.. (المصدر السابق -ص 1).»

- « البحث عن المعنى لا يتوقف عند حد، بل يستمر صعوداً، فكلما وصل الإنسان إلى معنى يرضيه ويتخذ موقفاً على ضوئه، تولدت تصورات جديدة.. تضيف على المعنى ما يزيده، أوحتى ينقصه» (المصدر السابق ص 2).»

- « المفاهيم تؤثر في سلوك الأفراد والمجتمعات، وتصوغ رؤيتهم إلى وجودهم. فإذا لم تكن واضحة، اضطربت هذه الرؤية وتشتت السلوك الفردي والاجتماعي.(المصدر السابق - ص 1).»

تلك إلماحات إلى أهمية تجلية «المفاهيم»، أما عن أسباب ركودها في تراثنا وفي حاضرنا الثقافي، فإنه يعزوها إلى عدد من المكونات المنضوية تحت مظلة محمولات « السبب اللغوي»:

«السبب اللغوي»، هوالجذر الأساس الذي يقف خلف ذلك الركود، « باعتبار اللغة هي المنبع الذي تتدفق منه كل الرؤى والتصورات» بحسب ما ورد في محاضرته..

لماذا؟

لأن لغتنا لغة «يقينية «، تم تكريسها بفواعل الظروف الاقتصادية والسياسية والقراءات الدينية، لتعمل على إنتاج وإعادة إنتاج ثقافة تعتمد على تجاهل الأسباب، «وهذا معناه - بحسب قوله - غياب الفكر الفلسفي والنقدي الذي يعيد الظاهرة، لا إلى سبب واحد (مثلما تفعل ثقافتنا) بل إلى احتمالات متعددة».

وهذه الخاصية «اليقينية « للغة أثرت سلبياً في البنية الجوهرية لثقافتنا، وكرّست عجزنا عن تحرير المفردة اللغوية من أسر «قاموسها» الجامد ، لكي تصبح مفهوماً تاريخانيا يستجيب لدواعي التطور، والتحول والمغايرة. وقد صبغ كل ذلك - بحسب رأيه - بنية المعرفة التي تكونت في ثقافتنا على ثنائية « إما أن تكون صحيحة أوخاطئة»، وهذا أغفل إمكانات التعددية ونسبية امتلاك الحقيقة، ورسّخ ما تنطوي عليه الحضارات الشرقية من جذور « الحدس» مقابل جذور « العلم « في الحضارات الغربية.

وبطبيعة الحال فإن نتاج تلك البنية المعرفية وتلك اللغة اليقينية، سيتجلى في إخضاع العقل لسيطرة التقليد والنقل والتكرار دون إبداع أوإضافة، وفي تغييب الإمكانية النقدية والفلسفية التي تعنى ب»خلق المفاهيم «، القادرة على التعاطي الخلاّق مع المتغيرات والتحديات.

وقد أشار «العلي» إلى بعض الرؤى النقدية والعقلانية لدى قلة من أعلام تراثنا، والتي بقيت سجينة في إطار مجالها الفردي فقط، ولم تتحول مع الأسف إلى فاعلية منتجة في حياتنا الثقافية، من مثل قول « ابن خلدون « في كتابه «المقدمة «:» أن للواقع قوانينه الذاتية التي تحركه، ويدركها الإنسان بعقله، وينفذها بجهده، وهي قوانين العمران الاجتماعي... والتي لا علاقة لها بإحكام الشريعة « (المصدر السابق -ص 3).

ولكن تاريخنا الثقافي لم يدرك تلك القوانين «الخلدونية « وسواها، وبقينا ننوء تحت وطأة « لغتنا اليقينية» بكل محمولاتها، وذلك ما أعاق تطورنا وحدد موقعنا في السلم الحضاري الذي نعرف مكاننا فيه جيداً!!

2 - تداخل «القيم« و»المفاهيم»

تطرقت تلك المحاضرة إلى قضايا كثيرة تفتح الأبواب الواسعة للأسئلة، ومن أبرزها ما أسهب فيه « المحاضر» حول « تداخل المفاهيم والقيم «، ليتفرد في هذا البحث بأطروحة بالغة الأهمية، يمكننا أن ننسبها إليه، وهي أن «القيم» مقولات مجردة عامة يشترك فيها البشر، في كافة الأزمنة والأمكنة، من مثل، قيم الصدق، والخير، والعدالة، والحرية، والمساواة، ..الخ، ولكن التعبير الوجداني والعملي عنها يتم من خلال «المفاهيم» التي تذهب إلى تحويل القيمة إلى آلية عمل في الواقع، وذلك ما يؤدي بالطبع إلى الاختلاف، من فرد إلى آخر، ومن مجتمع إلى سواه.

ويقول كخلاصة لهذه الأطروحة: (القيمة يقين ثابت، أما المفهوم فهويقين مرحلي، لذا فإن القيمة لا يختلف عليها الناس، لأنها حاجة عامة، أما إذا دخل المفهوم إليها، فإن طريق المجتمعات إليها يكون مختلفاً حسب اختلافهم في السلم الحضاري!) (المصدر السابق - ص 4).

3 - دور المثقف النقدي في تحرير «العقل « بتحرير المفاهيم:

يقول «مالكوم برادبري « إن العصر الذي نعيشه هوعصر المصطلحات، لذلك توجب علينا تحديد وبلورة المفاهيم «

ويقول الأستاذ إبراهيم البليهي: « إن مشكلتنا هي أن العقل يحتله دائماً الأسبق، وليس الأصوب».

وكان الفارابي - فيما يستشهد به «العلي - قد قال «: «إن العوام في كل أمة أسبق من الخواص والعلماء، وبالتالي فمعارفهم أسبق في الزمان، وإذن فأول مراحل نشأة المعارف هي مرحلة المعارف المشتركة، التي هي مبادئ رأي الجميع «، وبالتالي هي أقدر في التأثير على الأذهان.

لذلك ينشغل العلي كثيراً بدور المثقف في تحرير المفهوم من سطوة اللغة اليقينية التاريخية التي يتم توظيفها لترسيخ معارفها القديمة في الوسط الاجتماعي، حيث يقول في محاضرته «نموالمفاهيم « « (إن اختلاف الثقافتين، الفردية والجماعية ينتج أمامنا أبواباً للتأمل، ومن تلك الأبواب أن اللغة الوراثية تحتوي على « القيم والأساطير والخرافات، والطقوس وأساليب الحياة الأخرى «، أما الفردية فهي تعاند ذلك السيل الجارف وتضع أمامه ما ينقيه من صخور العادات، ومنزلقات الخرافة والجهل، إن لم تتخلص منه دفعة واحدة ).

في ضوء ذلك شغلت مفاهيم متداولة كثيرة موقعها في جل محاضراته ومقالاته، فحاور المعنى «القار» في بنية كل منها، مثل: التراث، التاريخ، الاجتهاد، الاعتقاد، الوطن، الهوية، الانتماء، التربية، المعرفة، القراءة، التعلم، الخ.

كما توقف أمام العديد من المفاهيم الحديثة مثل، الرؤية، الرؤيا، الموقف، التعددية، الاختلاف، الأيديولوجيا، العولمة، ليقاربها وفق مسارين متكاملين، يعمل أولهما على تجلية جذور ومنطلقات المفهوم الأساس، ومن ثم يعكف على محاورته وتوضيح اختلالات مرتكزاته، فيما يشتغل ثانيهما على إبراز مناطق الخلل في فهم بعض معارضيه، ممن لم يستوعبوا الأبعاد الفلسفية البعيدة للمفهوم.

ونورد هنا أنموذجاً لأسلوبه في مقاربة بعض هذه التعارضات في مقاربة المفاهيم:

«فوكوياما« ونهاية التاريخ

بعد تلخيصه لفهم بعض المعارضين لأطروحة «فوكوياما « عن نهاية التاريخ، من أنها تعني:محوالماضي، وموت القيم، ونهاية حقيقة الاختلاف، ونهاية الأديان أيضاً، يقول: (هذا كله لم يكن في خيال فوكوياما لأن المعنى الذي قصده بمقولة «نهاية التاريخ» كان معنى فلسفياً محضاً،معنى جدليأً، مفاده: أن الصراع التناحري بين الأضداد الكبرى قد انتهى ببلوغ الديمقراطية الليبرالية أوج انتصارها في الحرب الباردة.

ومعناه، إن التناقض التناحري بين الحرية والاستبداد قد انتهى لصالح الحرية. والصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية قد انتهى لصالح الديمقراطية، وعليه فقد انتهى الصراع الذي يحرّك التاريخ، مما يعني نهايته).

وبعد ذلك يمضي «العلي « لنقد أونقض أطروحة «فوكوياما» لمفهوم «نهاية التاريخ « بالإشارة إلى كتاب « فوكوياما» الذي ألفه بعد انتشار مفهومه لنهاية التاريخ، فيتوقف أمام المجتزأ التالي من كلامه: (إن الديمقراطية الليبرالية قد تشكل نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية.......، وبالتالي فهي تمثل (نهاية التاريخ) وليس معنى ذلك القول: أن الديموقراطيات الراسخة... لا تعرف الظلم، أوالمشكلات الاجتماعية الخطيرة، غير أن هذه المشكلات هي في ظني وليدة قصور في تطبيق مبدأي الحرية والمساواة اللذين قامت الديمقراطية الحديثة على أساسيهما).

وهنا يصل «العلي « إلى ذروة محاورته لذلك المفهوم حيث يقول:

بهذا النص لا يفتح «فوكوياما» الأبواب للشك في مقولته وحسب، بل إنه يشهر الخنجر لقتلها!!

أليست المساواة والتفرقة تناقضين تناحريين حتى ينتهي الصراع،فينتهي التاريخ؟!

إن المساواة أوما يعبر عنه بالعدالة الاجتماعية حلم أيديولوجي إنساني عام، ولا يمكن أن ينتهي صراع المتناقضات بدون حله!! (محمد العلي شاعرا ومفكرا ً- ص 312)

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة