في رواية (نباح) ينخرط البطل في رحلة بحث شاقة عن المكان العربي المفقود، المكان الذي اختفى وخلف فراغاً.. مفردة الفراغ التي تتردد كثيراً في النص هي ركيزة بنائية تفضي إلى دلالة المكان الشاغر مما كان يشغله، وفي هذا الخلو إشارة إلى التبدل، وهذا هو قانون الفراغ... 18.. حين يقول بطل (نباح): «أجهدت نفسي للفصل بين زمنين: زمن السذاجة، وزمن الجرح..»12، فهو يحدد الانتقال من مرحلة أولية بدت ممتلئة، إلى أخرى مختلفة فُرّغت من سذاجتها.. كما أنه يعود في أماكن أخرى من النص إلى فكرة التحول قائلاً: «كل شيء تبدَّل فينا، وحلَّقت في أرواحنا هزيمة مبطنة..» 26، مما يؤكد أن مرحلة ما قبل الهزيمة كانت مليئة بشيء ما فُقد فيما بعد، «شيء ما طار من أفئدتنا وبقينا - صباح مساء - ننصب الشراك لاستعادته...» 26.
رحلة البحث الرومانسية عن الحبيبة وفاء كانت في حقيقتها سعياً حثيثاً لاستعادة المفقود الذي كان يملأ الفراغ، لاستعادة تلك الأرض الحاضنة للمنتمين إليها، أرض العروبة و»الوطن الكبير»18.. وفاء المرأة اليمنية توظف كمعادل للأرض العربية وغيابها والبحث عنها «عبر ذلك الترحال المضني»..22، هو محاولة كسر الحدود الزمنية والمكانية للحصول على المجد البائد والحميمية الزائلة.. تذوب المرأة في أنساق الأرض ويتعامل معهما النص بشكل تبادلي، فهو يصف تفاصيل وجه وفاء وجسدها بخصائص الأرض، فقد كانت منبسطة على تضاريس حياة البطل، وحين يمتد جيدها فضياً تسيل منه حلاوة الجبال الشاهقة فتروي خدوداً فتنت بمنحدراتها الثلجية.. 111، وعلى هضاب خديها تجلس الحياة متفتحة بشتلات ورد دائمة الحمرة تطل على سهول ثلجية.. 112.. وبهذا التعادل يتساوى انتهاك الأرض بانتهاك العرض، فقد كان الشرف يهتك في الكويت على يد جنود صدام في سعيهم لاحتلال الأرض باستباحة الأجساد 28 - 231.. أما مقدم الأمريكان للخليج فسيؤدي إلى إخرج النساء «من بيوتهن ليتبرجن تبرج الجاهلية..» 45.
وفي المقابل تحمل الأرض دلالات أنثوية، فيصف النص مدينة عدن بأنها «تنام ملتحفة برداء البحر كعذراء سلبت بكارتها، فلاذت بجمع ثيابها الممزقة لستر عورتها المستباحة»، وهي مدينة «خلع الإنجليز رداءها، وقبل أن تفيق عاقرها الروس، وتركوها تتلفت باحثة عن مخلّص يأتيها من خلف الغيب، تتلفت صوب البحر، وعندما تمل تعلق أهدابها على قمة جبل شمسان في انتظار مرتبك..» 7.. أما مدينة جدة فعروس « اختطفها البحر من بين أنياب صحراء هالكة... مسترخية على الشاطئ، وكأنها فتاة تنتظر عاشقاً ما، يخرج عليها من بين زبد الموج المتخاذل، ويقودها إلى فرحتها الأولى».. وتجالس جدة «البحر من الصباح الباكر حتى إذا مد الليل خطواته بشوارعها سحبت رداءها بخفر العذارى الخجلات، وعادت تتبختر صوب مرقدها تاركة فتنتها يتطبب بها عشاق الليل» 72.. كذلك فإن مدينة صنعاء «تغطي بردائها نصف جذعها وتتهيأ للنوم... ثم تلتحف بالصمت وتتصنع نوماً ثقيلاً..» 270 غير مكترثة بهذا العاشق الذي جاء ينقب في فساتينها عن عبق العشاق ويرتق في ذاكرته كل حكايات التاريخ.. 149.. وإن كانت مدينة صنعاء تنام مطمئنة أن أحداً لن «يدخل مخدعها أو يخرج من حدائقها» 185، فإن مدينة حماه توصف كامرأة «سابحة في دمها ولاعنة نظاماً استباح عورتها وترك أجساد أبنائها مجندلين في شوارعها..» 154.
هذه المدن تتشبه بالنساء في ملمح واحد محدد.. وهو التستر بالأردية لتغطية الجسد المكشوف، وفي هذا السياق ينتظم تتبع البطل لوفاء حين خروجها من المدرسة وفي طريقها إلى بيتها في الحارة القديمة، فيصيبه الكمد كلما رأى «عيناً تقع على عجزتيها».. وكالأرض التي يتربص بها الطامعون، فإن وفاء حين تمشي يتربص بها ثلة من الفتيان، «وبسبب هذا التربص دارت مشاجرات عنيفة» بين البطل وبين خصومه..»24.. في هذه الأحوال كان البطل يتحول إلى ساتر يحاول أن يغطيها «كي لا تحط عليها عيون العابرين، والمنتظرين، والسفلة...» 54.. كانت وفاء مغرية «الكل يريدها» 313 ، كالأرض التي تكالبت عليها الأمم، فتسير والفتى وراءها يذود عنها المواجهين، ثم يتحول «إلى جرو لا يكف عن النباح...» 55. وهنا يظهر وجه آخر لذلك الفارس العربي الذي سقط من على جواده، وظل يركض في أرض..10.. المعركة بلا سيف، أو درع، يحوم مدافعاً عن صدره بالشتائم، ووفاء تعاتبه بصوت الأرض فتقول: «ماذا فعلت من أجلي؟ تقف ليلياً أمام نافذتي تسمعني الكلام، الكلام فقط..» 117.. ثم تصرخ فيه معيبة عليه جموده وانهزاميته وقد تعرى جسدها، وجفت استغاثتها: «أنت تقتلني في كل حين.. أنت تقتلني في كل حين.. أنت تقتلني في كل حين...» 166.. حين أصبح اسمها شمس كانت قد انتقلت «من فراغ طاهر إلى زمن رث» 247، فتجلت حقيقة انتهاكها ساطعة، شمس يستحيل سترها برداء.
على مدار السنين ينغمس البطل في بحث مكثف عن موقع في هذا الكون يحتوى وفاء - بلاد العرب الضائعة، فيجول مدن تهامة ويجوب الجبال والأودية والمنحدرات والبحار 53، يلاحق أخبارها ويقص أثرها الغايب، ويرهق النص بسؤال لا يهدأ: أين هي؟ 8، أين هي الآن؟ آه لو أعلم أين هي الآن؟ 256، أين أجدها؟ 253.. يحمل البطل في رحلته شوقاً ملتهباً 55 يشتعل داخل جثة تبحث عن امرأة تعيد إليها الحياة... 180، امرأة كالمدى كلما اقترب منه سحب أطرافه 182.. في نهاية الرحلة الأخيرة يجدها أمامه: صادمة، حارقة، كاوية! ما عادت تلك المرأة تفرق بين الحياة الكريمة وكرامة الحياة، فارتضت معيشة دنس لأنها: «توفر لي المال الكثير...» 317.. ويئن عاشقها أمام هول الكارثة: «كم من الحمق نرتكب حينما نظن أن أزهار أرواحنا لا يمكن لها أن تتلوث وتسحق تحت الأقدام..» 312.. وكما هُتك شرف الأرض - المرأة على يد جنود صدام 28، فإن شرف المرأة - الأرض قد دُنّس على يد الأوغاد، فتهاوى طهرها مع الانهيارات العظيمة التي تقوضت داخل عاشقها.. 314، بعد أن اغتالت جوانحه عواصف من الغضب والحزن المكبوتين.
يجد التماهي بين المرأة والأرض دعمه الأخير في الإحساس بالهزيمة حيث تتساوى هزيمة العاشق الفرد مع هزيمة أبناء الأمة وتعبر النفق نفسه.. يصرح النص بأن «الهزائم متشابهة المذاق: هزيمة الحب، هزيمة الحرب، هزيمة الذات، هزيمة الوجود، كل الهزائم متشابهة، فلها نفس المذاق...المر..» 17.. قرب النهاية ظهرت الأرض متورطة في مواليدها الذين لم تعد تعرف لهم أصولاً، مواليد بُذروا فيها فنموا فوقها واستطالوا، وكلهم يدّعي أنه ابنها الشرعي.. كانت وفاء تبحث لمولودها غير الشرعي عن أب ينسبه إليه، فألزمت عاشقها بتبنيه لتخلص من ورطتها 317.. وبسرعة فائقة زودته بالوثيقة الرسمية للمولود، فحملها كما يحمل الفلسطينيون صكوك أراضيهم حبراً على ورق.
على متن الطائرة نفسها وهي تقلع في طريق عودتها يتحسس البطل وثيقة ميلاد رسمية حملها في جيبه تشهد زوراً أنه أب لمولود لا يمت له بصلة، ورقة تقف بقوة في مقابل حجج الأراضي التي احتفظ بها موسى الفيل لتشهد بملكيات ضائعة، ملكيات أحرقها ملاّكها «في رهنيات لا تعود».. يفلت موسى الفيل تنهدات حارة وهو يقول: «لقد أفلتوا بأكثر منها في حالة ضعفهم»82 .. في زمن الانتماء الوثائقي أصبح للبطل ابن ينتسب إليه تزويراً، ابن يحمل اسمه تضليلاً في حين لا يربطه به سوى ورقة عليها خربشات بالحبر.. ذات يوم حلمت وفاء أن يكون لهما ابن تسميه رمزي 167، فكان لهما ولد لم يخرج عن إطار الرمزية.
يعود البطل إلى نقطة الانطلاق وقد بلغ مراده، لكن ذلك المراد كان قد تشوّه فما عاد صالحاً لملء الفراغ الهائل الذي تكوّن بفقده، فوقف معلقاً بين الدهشة والغضب، وتحرك من فراغ إلى فراغ 318.. والآن وقد أجهضت الرحلة من ضالتها المنشودة، يتساءل الباحث الرحالة، والعاشق المخذول: «إلى أي أرض سأمضي؟» 319، فالمرأة - الأرض التي سعى إليها ما عادت وفاء، بل تغيرت إلى شمس: أصبحت أرضاً مباحة مستباحة 11، منهكة ومنتهكة، أرضاً منقسمة بين مستغليها، ضائعة وغائبة كأنها اندثرت.. كل هذا الشوق والوفاء والبقاء على العهد 182 الذي يحمله البطل إنما هو للأرض التي يكتشف أنها «خرابة تسكنها خفافيش ليلية» 228، بعد أن كانت حاضنة لأمة عربية متجذرة فيها، أمة واحدة لا آخر فيها.. بطل الرواية الذي يبقى حتى نهاية الرواية بلا اسم، إنما هو واحد من أبناء الأرض المفقودة، فرد من أمة تطارد حلماً عن أرض كانت: بلادُ العُربِ أوطاني.
lamiabaeshen@gmail.com
الرياض