نبتت في العصور الإسلاميّة دعامةٌ جديدةٌ للتقليد، تضاف إلى الدعامة القبليّة والأبويّة الراسخة التي كانت لدى العرب في الجاهليّة. دعامة تصوّر الإسلام على أنه تبعيّة عمياء للبشر، بما قالوا، وما رأوا، وما فعلوا، وما اجتهدوا، وما يَمتّون به من صلة نسبٍ إلى الرسول؛ فالإنسان العاديّ ليس كفؤًا أن يثق في ربه وحده، ولا في عقله وحده، ولا في نسبه الخاصّ، بل لا بدّ أن يجعل هنالك بينه وبين الله وسيطًا يقرّبه إليه زُلفى، وفق الطريقة القديمة في التفكير. وهو يفعل ذلك، لسببٍ آخر، لأنه مريح له جدًّا، ومُخْلٍ إيّاه من مسؤوليّة الحريّة، وتبعات التفكير، وواجبات التعلّم، حتى شاعت المقولة العامّيّة الجاهلية الحديثة: «اجعل بينك وبين النار مطوِّعًا»! وهو الفكر الكهنوتي نفسه في ديانات أخرى، سواء اعترفنا بذلك أم كابرنا كعادتنا، فأنكرنا وقوعنا في المزالق نفسها التي وقع فيها من قبلنا. فكرٌ قديم جديد لا يرى الإنسان حَرِيًّا بأن يتواصل بالسماء إلا بسلّم، تارة يكون نجمًا، وتارة صنمًا، وتارة بشرًا.. وما أشبه الليلة بالبارحة!
وتفصيل ثقافة الإلْف والتقليد تلك يطول. فهي راسخة الجذور في الثقافة العربيّة منذ القِدَم. ثم استفحلت أكثر في العصور الإسلاميّة منذ أُقفل باب الاجتهاد الفقهيّ وغير الفقهيّ، أي في حوالي القرن الرابع الهجريّ؛ حيث أصبحت غاية النبوغ أن يقلّد التلميذ شيخه ويستنّ سننه، ويتشبّه به، حتى في الملبس والمظهر والسلوك، وكذا يحاكيه في التأليف والأسلوب. وباختصار: يُلغي شخصيّته، ويمحو عقله، وينفي استقلاله؛ ليجعل من نفسه نسخة مستنسخة ومختّمة، طبق الأصل، لسحنة أستاذٍ أو شيخٍ أو أبٍ أو إمامٍ، محاكيًا فكره ونتاجه، إنْ كان له نتاج، حذو القذّة بالقذّة. وفي هذه المدرسة التقليديّة نزوع فطريّ إلى بقاء الحال على ما هو عليه، والارتياح إلى مألوف الماضي. وقد نقل القرآن الكريم وصف ذلك النزوع عن العرب، في قولهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا! أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون؟!)، (المائدة: 104)، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً، قَالُوا: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا، وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا. قُلْ: إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء، أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون؟!)، (الأعراف: 28)، (قَالُوا: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِين)، (يونس: 78)، (قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِين)، (الأنبياء: 53)»، (قَالُوا: بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون)، (الشعراء: 74)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ، قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا! أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ؟!)، (لقمان: 21)، (بَلْ قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون)، (الزخرف: 22)، (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون)، (الزخرف: 23).
كما عُرف ذلك لدى مختلف الشعوب، ولاسيما البدائية. لذلك يعتقد- بداهة- د. كوري ثابت، من معهد الشعوب الصغيرة في التاريخ القديم بكاليفورنيا أن أقزام ما قبل التاريخ الذين تم العثور عليهم في إحدى جزر البحيرات العظمى يريدون أن يُتركوا في حالهم إلى الأبد. وذلك أن علماء آثار أمريكيّين أصيبوا بالذهول عندما اكتشفوا مجموعة من أقزام ما قبل التاريخ في جزيرة معزولة في بحيرة ايري، ويعتقد الخبراء أن الأقزام في الفترة التي سبقت العصر الجليدي كانوا يسكنون معظم ما يُعرف الآن بإقليم البحيرات العظمى، إلاّ أنه كان يُظن أنهم قد انقرضوا قبل أكثر من 10 آلاف سنة. وقد قام الأقزام برمي المستكشفين بنوَى الخوخ، وأتوا بإيماءات فاحشة. ومن ثم توصل د. ثابت إلى ترجيح أن أولئك البدائيّين لن يحاولوا الاندماج في المجتمع الحديث، بل سيفضّلون الاستمرار في طريقة حياتهم التي تعوّدوا عليها، وتَعُوْد إلى ما قبل التاريخ، وسيعادون إذن من يحاول أن يغيّر واقعهم ولا يتركهم في حالهم(1).
وكذلك تفعل جميع الشعوب التقليديّة، حيث لا تكتفي ببقائها على ما أَلْفَتْ عليه أحوالها فحسب، ولكنها ترمي بالنوى من ينبّهها إلى ما هو أفضل ممّا هي عليه، ولا تُسْلمه من القذف بإيماءات فاحشة، كما فعل أقزام جزيرة ايري، لا دفاعًا عن النفس فحسب، ولكن- إلى ذلك- لما تحمله من نظرة ازدراء إلى مَن يعكّر صفوها، وما تكنّه من احتقار له، بوصفه كافرًا بمسلّمات جماعتها، ومخرِّبًا لثوابتها وعاداتها وتقاليدها وخصوصيّتها. وتلك مواجهة نمطيّة تتكرّر على اختلاف الأزمنة والأمكنة والبشر، تأتي قصّة أقزام ما قبل التاريخ نموذجيّة في دلالتها على رسوخ الرفض للجديد والغريب والمختلف في الجبلّة البشريّة.
ولا يحدث هذا لعدم فهم الجديد، أو استيعاب قيمته، أو الخوف منه، فحسب- وتلك عوامل واردة بالطبع- ولكن قبل ذلك لأن التحوّل في ذاته أمرٌ صعب، نفسيًّا وذهنيًّا وواقعيًّا، إلاّ على من ترقّى تربويًّا، وتحرّر عقليًّا، وانفتح على رؤية الحقّ والخير والجمال، وتطلّبها لذاتها، دون حيلولة عواطف أو أهواء أو تعصّبات.
وفي ثقافتنا العربية توارثت الأجيال ثقافة الاحتذاء والتقليد والمحافظة على ما وجدوا عليه الآباء والأوائل، تأخذ بأكظام النفوس، غارسة عقليتها في الطفل منذ نعومة أظفاره، فيشبّ وهو لا يرى طموحًا أعلى من أن يكون حافظًا، وأن يَظهر نسخة طبق الأصل عن أبيه، أو عن شيخه، ملغيًا داخله أيّ نزوع إلى التفرّد أو الاستقلال؛ لأن الثقافة نفسها قد حرّمت التفرّد أو الاستقلال، وعدّته شذوذًا، وانحرافًا، وتردّيًا في مهاوي الضلال والنار. ولذلك تجده متخاجئًا(2) عن كلّ جديد، يكاد لا يخرج عن نموذج شيخه- مثله الأعلى- إلى الواقع، ومنه واقعه الذاتي، إلاّ إلى الأحلام والأوهام والخيالات. متأرجحًا أبدًا بين نموذجين: نموذج موروث، ونموج موهوم.
لمحة:
لوحة (النقش العجيب) يقدّر عمرها بما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، مصنوعة من حجر البازلت الصلب، ويُعتقد أنه عثر عليها في جنوب سوريا، أو خرائب اليهود في المدينة المنورة، ويذهب الباحث أحمد الجوهري إلى أنها واحدة من القطع التي صنعها (الجآنّ)- حسب قوله- بأمرٍ من نبي الله سليمان عليه السلام؛ حيث إن الوقائع التي تعبّر عنها اللوحة من خلال الصورة لا يدركها إلاّ نبيّ يوحَى إليه، كما يرى. وهي على الرابط التالي: http://www.mosestablet.info
واللوحة تبدو مركّبة بطريقة «سورياليّة» بالفعل، غير أن أي لوحة لو قلّبت لأمكن أن نرى فيها- أو نتخيّل- أشكالاً مختلفة، يمكن أن يذهب فيها التأويل غير مذهب. ولقد استخرج الباحث من لوحة النقش العجيب عشر صور، أساسها صورة يعتقد أنها لوجه موسى عليه السلام، وصورة أخرى نقيضة تظهر بقلبه للوحة 180 درجة، وهو يرى أنها لوجه المسيح الدّجّال. والواقع أن اللوحة- التي تظهر أشبه بالآثار العراقية- تظلّ، في رأيي، نتاجًا بشريًّا. ومن ثم فهي وليدة خيال تأويليّ محض، نحتها فنّانٌ في عصرٍ ما، بما يحمله من تصوّرات واعتقادات، وليست آيةً سماويّة، لتفسّر على أساس آيات قرآنيّة، بل ليُتنبّأ بأن فيها ما يُنذر بآخر الزمان، وبظهور المسيح، وأن فيها ردًّا على من شوّهوا صورة محمّد عليه السلام في العصر الحاضر. إن في هذا الاجتهاد في التحليل والتفسير خلطًا عجيبًا بين العِلم والدِّين، لكنه يبدو غير مسوّغ، لا عِلمًا ولا دينًا، فلا العِلم سيقبل تلك التأويلات الدينيّة، التي تنسب الآثار إلى عالم الجنّ- كما كان العرب يفعلون قديمًا، إذ ينسبون كل عجيب إلى الجِنّ، لاعتقادهم أن الجنّ أعظم من الإنس- ولا الدِّين سيُسلّم بأن لوحة بازلتيّة، مجهولة الصانع، تنطق قبل آلاف السنين بما جاء به القرآن، وتقدّم الشواهد المرئيّة على ما جاء فيه من إشارات غيبيّة.
(1) نُشر عن «العثور على أقزام ما قبل التاريخ» في مجلّة «اليمامة»، العدد 2091، السبت 8 صفر 1431هـ= 23 يناير 2010م، ص44.
(2) «متخاجئًا» كلمة لهجيّة وعربيّة فصيحة معًا. نقول في فَيفاء: تخاجَى، يتْخاجَى، تخِيْجايٍ: أي تباطأ. وورد في (ابن منظور، لسان العرب، (خجأ)): أن التَّخاجُؤُ بمعنى: التقاعس في الأمور؛ قال حسان بن ثابت:
دَعُوا التَّخاجُؤَ، وامْشُوا مِشْيةً سُجُحاً،
إنّ الرِّجالَ ذوُو عَصْبٍ وتَذْكِيرِ
وقيل: التَّخاجُؤُ في المَشْي: التَّباطُؤُ.
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
الرياض