Culture Magazine Thursday  01/04/2010 G Issue 304
فضاءات
الخميس 16 ,ربيع الثاني 1431   العدد  304
 
أزمة العقل الوحدوي العربي
الوحدة العربية.. ما بين التعويذة..واللعنة.!
سهام القحطاني

عندما نستقرأ كلمة أمير قطر في قمة العرب في مدينة «سرت» «العالم العربي اليوم يمر بأزمة مستعصية، وأقترح تشكيل لجنة عليا للعمل العربي المشترك لتدارس الوضع الراهن» سنستنتج أن العقل الوحدوي العربي يعيش أزمة سياسية، وهو استنتاج يدفعنا مع بداية ونهاية كل قمة عربية تكرار السؤال ذاته: هل الوحدة العربية اليوم هي الحل لإشكاليات العرب النهضوية والسياسية؟

وما مدى نفعية الوحدة السياسية الصورية التي يتمثلها العرب اليوم في تقديم بنى ورؤى ومشروعات إجرائية لتطوير العقل العربي الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي؟

أم أن على العرب أن يراجعوا مسلّمة وحدتهم ويبحثوا عن بديل غير أيديولوجي لتشكيل وحدتهم، يسهم في حل إشكاليتهم الحضارية والنهضوية؟

وهل يجب أن تكون هناك إعادة نظر لِما اُتفق عليه بأنه مُسلّمة لتكوين العقل الوحدوي العربي؟

أظن أن محتوى المرجع الوحدوي المتفق عليه من قبل العقلية العربية لتشكيل الوحدة العربية كان حاصل ظروف تاريخية معينة أنتجت حماسة وجدانية هي التي أُسست من خلالها فكرة «الوحدة العربية». ومع تغيير الظروف ومقومات العقل النهضوي العربي أصبحت فكرة «الوحدة العربية» مجرد فكرة وجدانية تفتقد الخصائص الوظيفية والعملية التي تؤهلها لِتُؤسس عقلاً عربياً وظيفياً قادراً على إنتاج وقيادة المشروعات النهضوية، والتي بدورها تؤسس كفاءة المواطن العربي العلمية والفكرية والاقتصادية، وترفعه حضارياً من خلال توسيع وعيه؛ أي كيف يصبح منتِجاً علمياً وثقافياً واقتصادياً، وهو وعي سيحميه من أن يصبح كائناً استهلاكياً لعلم وثقافة واقتصاد الآخر. وهذا لا يعني الانفصال عن الشراكة العالمية، بل يعني أن الشراكة العالمية هي إضافة للخبرة العالمية وليست استهلاكاً لتلك الخبرة.

وبذلك فإن لكل حقبة تاريخية في حياة الأمم والمجتمعات أولوياتها النهضوية. والمتأمل لنشوء فكرة «الوحدة العربية» سيجد أن بروزها كان لمحاربة الضغط السياسي والاضطهاد العنصري اللذين مارستهما الخلافة العثمانية ضد العرب، وإن الحركة الانفصالية التي حدثت بين العرب والعثمانيين باسم الوحدة العربية، كانت بمثابة إعادة تشكيل «وعي الأمة» الوعي الذي فصل بين «العقل العربي» و»العقل الإسلامي»، وهو فصل كان ضرورياً على مستوى الوعي الثقافي في تلك الفترة لخلق خصائص الشخصية العروبية، أي انتقال الانتماء من الشاسع إلى الانتماء إلى الزاوية.

إضافة إلى أن تفعيل التمرد على الخلافة العثمانية والمشاركة في الثورة عليها ما كان سيتم في ضوء وجود الشخصية العربية الكلاسيكية التي تربى وعيها على ثقافة الخلافة الإسلامية، ولذلك كان الأمر يحتاج إلى إنتاج شخصية عربية بمواصفات معيّنة لا تخضع لتأثيرات ثقافة الخلافة، وإنما تخضع لتأثيرات ثقافة جديدة بخصائص مختلفة عن ثقافة الخلافة وأساسياتها. ومن هنا بدأ التفكير في مسألة «الوحدة العربية» لتصبح ثقافة بديلة للمجتمعات العربية عن ثقافة الخلافة؛ حملت معها مفهوماً جديداً وهو «الشخصية العروبية»، هذا المفهوم الذي كسّر نوعية وقيمة المرجع الأصولي للشخصية العروبية، فجاء بمثابة إلغاء للثنائية التي رسخّ معيارها العرف التاريخي للأدب العربي القديم «الشاعر الأصيل والشاعر المولَد»، وبذلك أصبحت الوحدة العربية هي مصنع لإنتاج الشخصية العروبية التي لا تشترط فيها قيمة دينية أو قيمة أصولية عرقية، بل تشترط توفر إيمان الشخصية بخصائص الوحدة العربية ومنطلقاتها الفكرية، وبذلك أصبحت الوحدة العربية منظومة ثقافية ونظاماً سياسياً.

وهنا طبعاً لا نغفل فضل الغرب ومباركته لهذا التحوّل وخاصة بريطانيا؛ لإضعاف الخلافة العثمانية، والذي جُيّر في النهاية لمصلحة بريطانيا على مستويين؛ أنها كفلت بالتبني الوحدة العربية عبر إنشاء جامعة الدول العربية، والمستوى الثاني فوزها في الحرب وإنتاجها التقسيم القطري للدول العربية، وبذلك تصبح بريطانيا هي منتِجة التقسيم ومنتِجة الوحدة. وهنا أذكر بالخلفية التاريخية لنشأة فكرة «الوحدة العربية» لأقول «ما بُني على باطل فهو باطل»! «أي معادلة التقسيم والوحدة».

ومن يتتبع تاريخ الوحدة العربية سيلاحظ أن الوحدة العربية في كل أحقابها كانت تأكل أبناءها عندما تجوع! كما تأكل القطط أبناءها! فالغريزة أقوى من أدبيات المقدس! لأن منطلقات الوحدة العربية أُسست على أنها «حقيقة متسامية» تصلح لكل زمان ومكان!، لا لتحقيق نظام معيشي مؤقت يحتوي اقتضاءات لمتحولات تاريخية مشروطة بمقدرة تحمّل الظرف لها وتناسبها مع المعطى المتغير؛ أي تحقيق التوازن بين النسبة والتناسب.

أما اليوم كما أظن «فالوحدة العربية» خرجت من منظومة الأولويات النهضوية التي يحتاجها العرب اليوم لصناعة مستقبلهم النهضوي، وأصبحت جزءاً من ذاكرة التاريخ، بل أظنها أصبحت عبأً على العقل العربي في ظل النظام العولميّ والذي يسير وفق أولويات عملية ومنطقية ونفعية، وليست أولويات وجدانية وعاطفية.

أصبحت عبأً على المواطن العربي ذاته عندما يرى أن الوحدة العربية تكرر إنتاج نموذج الهزيمة السياسية والثقافية والعلمية من عام «48» إلى أحداث «غزة الأخيرة»، حتى أصبحت «الوحدة العربية» في ذهنية الجيل العربي الجديد هي «مرادف للضعف والانهزامية والخلاف والانقسام»، وهي اعتبارات اشتراطية دفعت هذا الجيل إلى «الكفر بالوحدة العربية» والبحث عن بديل ثقافي يستعير منه الدلالة التي يفتقدها؛ دلالة «النصر» وهو ما يدفع الجيل العربي الجديد إلى تقليد «المنتَج الغربي» لأنه رمز للانتصار والعظمة. وهذا التقليد يحمل مؤشرين، فالجيل العربي الجديد على الاعتبار هو الوريث الشرعي للعقل الوحدوي العربي، يعلن بصورة غير مباشرة انفصاله وتمرده وثورته على هذا الميراث الذي أصبح لعنة على كل من امتلكه.

كما أن الجيل العربي الجديد لم يعدّ يؤمن بالقيمة الأيديولوجية للعقل الوحدوي العربي، بل بالقيمة الثقافية كمكون للعقل الوحدوي النهضوي، وهذا الامتداد من الزاوية الذي تقفص فيه المواطن العربي طوال الحقب التاريخية السابقة باسم الوحدة العربية إلى الشاسع هو أبرز الخصائص التفكيرية للجيل العربي اليومي. وهذا التحول من الزاوية إلى الشاسع ومن نموذج الهزيمة إلى نموذج استعارة النصر أمر طبيعي يتفق مع سلامة الطبيعة الإنسانية؛ فالإنسان يؤمن بما يُكسبه ميزة وتمييزاً لا بما يضيف إليه الشعور بالنقص والألم.

والوحدة عبر إنتاجها المكرر لنموذج الهزيمة أصبحت تضيف للمنتِمي إليها الشعور بالنقص والضعف والانهزامية، مما جعل العالم العربي «اليوم يمر بأزمة مستعصية» كما قال أمير قطر.

كما أصبحت الوحدة العربية اليوم مأزقاً وعيوياً للعقل الثقافي العربي ما بعد الحداثة، لأنها تقيده بأدبيات ساذجة دفعت المواطن العربي عبر الحقب التاريخية إلى التخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتعيق انعتاقه نحو الحرية الفكرية والسياسية «العقل والاختيار والقرار».

ولذلك على المجتمعات العربية أن تعيد صياغة أجندتها النهضوية ومشروعاتها السياسية والثقافية وفق منظومة العقل الوحدوي لأولويات النظام العولمي لا النظام الوجداني العربي أو العقل الوحدوي العربي.

وقد يرى بعض المتعصبين للعقل العربي الوحدوي أن الوحدة العربية لم تفشل على مستوى المشروع السياسي أو المشروع الثقافي أو المشروع التنموي، وأن ما تتعرض له من أزمة هي نتيجة طبيعية لعدم تحديث مسلّماتها وليس لأن تاريخ صلاحيتها انتهى، أو التشكيك في أصالتها، وهو رأي لا يبعدنا عن الحجة السابقة بأن فكرة الوحدة العربية أصبحت عبأً على المشروع السياسي ومأزقاً ثقافياً وتنموياً للمجتمعات العربية بل يقربنا من تلك الحجة؛ لأنه يدعم وجود أزمة تمر بها الوحدة العربية.

ولعل السبب الرئيس لتلك الأزمة هو غموض نوع وصفة وقيمة مرجعيات الوحدة العربية، هل هي مجموعة من المسلمات أو مجموعة من الحيثيات؟ وهذا الغموض دفع جوهر الوحدة العربية إلى مأزق وعيوي يتبلور في ثنائية «الثابت والمتحول»، وهي الثنائية التي عادة تقف معترضة في وجه «أنسنة الأفكار والأنظمة والقوانين».

فهناك من يرى أن جوهر الوحدة العربية متحول ولذلك لابد أن يخضع للتغيير والتبديل، وهناك من يرى أن جوهرها ثابت ولذلك يصبح التفكير في تغيير ذلك الجوهر «كفر فكري» و»خيانة قومية».

حتى أصحاب الرأي بمتحول جوهر الوحدة العربية ينادون باستحياء بسقوط الوحدة العربية من خلال تقديم العقل التنموي التشاركي على العقل الوجداني، بحجة أن العقل التنموي هو الحل للأزمة النهضوية للمجتمعات العربية، وليست الوحدة السياسية.

لأن العقل السياسي العربي الذي تتبناه الوحدة العربية ما يزال يكرر فشله، فلم يستطع تقديم أي حلّ لأي مشكلة سياسية عربية، وفي ذلك فليتأمل المتأملون.

ويبدو أن قمة «سرت» بدأت تقتنع بعجز العقل السياسي للوحدة العربية وفشله في التعامل مع القضايا السياسية العربية؛ عبر تنويه الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى عن تقديم «مشروع إنشاء رابطة الجوار العربي، وتطوير الجامعة العربية».

فهل هذه الخطوة هي مؤشر لإعادة تشكيل العقل الوحدوي العربي لحلّ تأزماته المعقدة؟

جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة