كنت قد طرحتُ في (الجزء الأول) من هذا المقال مجموعةً من (الأسئلة) التي تكشف عن صعوبة قضية (التلقي)، وتؤكد حاجتها إلى (دراسة) مستقلة عميقة، وكانت تلك (الأسئلة) تدور حول ماهية (وظيفة) كلٍّ من (المبدع) و(المتلقي) في (الممارسة الإبداعية)، و(أهمية) كلِّ واحدٍ منهما في هذه (الممارسة)، و(المعضلة) الكبرى التي تواجه (المبدع) حين يشرع في (إنتاج الدلالة).
إنَّ الأمر الذي لا شكَّ فيه هوأنَّ (المبدع) حينما ينشئ (النص) فهولا يُنشئهُ لأجله في المقام الأول، ولا يبدعُهُ لأجل أن يبقى حبيس أدراجه، إنَّما ينشئهُ ويبدعُهُ ليشارك به الآخرون، ويتواصل معهم، ويستمع إلى آرائهم ومواقفهم، ويصغي إلى (قراءات) (النخبة) منهم، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يكون (خطابه) على مستوى عالٍ من التميز والتألق، من خلال لغةٍ (أدبيةٍ) مُحلِّقة، وأسلوبٍ (فني) لافت، ولن يرضيه أن يظهر إنتاجه بِمستوى ضعيف باهت، أوسطحي مبتذل، ولهذا وذاك لا بد له أن يتنبه إلى الأمرين جميعا، وأن يراعي الجانبين كليهما، فيبدع ويُمتع الآخرين في الوقت الذي يتواصل ويتشارك معهم موصلاً لهم (رؤيته) و(فكرته) بِما يطمح هوإليه، وبِما يأملون هم منه، ولا ريب أنَّ الشعراء المبدعين الذي تألقوا في (نصوصهم)، وخلَّد التاريخ (إنتاجهم) وذاعت شهرتهم بين الناس هم أولئك الذين استطاعوا أن يوفِّقوا بين الأمرين، وتمكنوا من (إنتاج) (نص) يَحمل جميع مقومات الإبداع والتميز في الوقت الذي جعلوا (المتلقي) (حاضراً) في أذهانهم حين (مُمارسة) هذا (الإنتاج)، لأنهم استشعروا حينها أنه هوالمستقبل الأول لهذا (الخطاب).
بيد أنَّ هذا لا يعني إعفاء المسؤولية عن (المتلقي)، والرضا بأن يقف أمام (الدلالة) موقف المتفرِّج، مُنتظراً أن يصل إليه (خطاب) (المبدع) بكلِّ يُسرٍ وسهولة، ودون أن يبذل أدنى جهدٍ في (استقباله) أويُتعب فكره في (تلقِّيه)، لأنه إذا قررنا أنَّ (المتلقي) ركنٌ ركينٌ في (الممارسة الإبداعية) فإنَّ هذا يعني أنَّ عليه (واجباتٍ) كما أنَّ له (حقوقا)، وواجبهُ هنا هومُحاولة الاقتراب من (النص الإبداعي) وتلمُّس (أبعاده) واستيعاب (مضامينه)، والارتقاء ب(فكره) و(تفكيره) ليصل إلى (الرؤية) و(الدلالة) التي يَحملها (خطاب) (المبدع)، وهذا الارتقاء لا يكون إلا بالدربة والممارسة والتأهل ب(أدوات معرفية) كثيرة من شأنها تَهيئة استقباله (للإنتاج) كالثقافة والخبرة والذائقة والوعي، ولذلك ينبغي عليه ألا يضع المسؤولية كلها على عاتق (المبدع) مُعتمداً على أنه هو-وليس غيره- الذي سيُقدِّم تنازلاتٍ ليصل إلى ذهن (المتلقي) ومستواه في التفكير.
إنَّ (المسافة) التي يقطعها (المبدع) و(المتلقي) لإتمام (العملية الإبداعية) لا بد أن تكون (متقاربة)، و(الخطوات) التي ينبغي أن يخطوها كل واحد منهما لا بد أن تكون (متساوية)، ليكون اللقاء بينهما في (منتصف) الطريق، وحينها فقط يتألق (المبدع) ويستمتع (المتلقي)، وتكون (الممارسة) ناجحة على جميع المستويات، ويكون ما قدَّمَهُ كلُّ واحد منهما من (جهد) أو(تنازل) هو في سبيل إتمام هذه العملية وإنجاحها، وذلك حين صاغ (المبدع) رؤيته في الشكل الفني المأمول، مُبقياً في الوقت نفسه على أبواب (التواصل) و(المشاركة) مفتوحةً مُشرَعةً بينه وبين (المتلقي)، وهذا الأمر يبدوهيناً في بادئ الأمر وللوهلة الأولى، لكنه حين التطبيق والممارسة سيجد المتأمل أنه في غاية الصعوبة، ولا يتقنه إلا القلة من المبدعين.
وينبغي التنبه إلى جزئية أخرى من شأنها أن تزيد من صعوبة عمل (المبدع) وتجعل (إنتاج الدلالة) لديه يواجه مَحطَّاتٍ من (التردد) و(التفكير) قبل الإخراج النهائي، وذلك حين يستشعر (المبدع) أنَّ (المتلقين) الذين يكتب لهم وينشئ خطابه من أجلهم (مُختلفوالثقافات) و(متباينوالاتجاهات)، وحين يتصوَّر أن مستواهم (المعرفي) و(الفكري) ليس على (درجة واحدة)، ولا شك أنَّ استشعار ذلك وتصوره أثناء (الممارسة الإبداعية) يوقع (المبدع) في مآزق كثيرة، لأنه حين ينشئ (العمل الإبداعي) فإنه لا ينشئه إلا من أجل أن يستقبله هؤلاء (المتلقون)، وهويريد في الوقت نفسه أن يصل إبداعه إلى أكبر قدر مُمكن منهم، لأنه كلما اتسعت دائرة (المتلقين) للخطاب وتعددت طوائفها كان ذلك من علامات النجاح والتميز، وإشارة واضحة على تألق المبدع وقدرته على أن (يتواصل) مع متلقين كُثُر، وأن (يتفاعل) بإنتاجه معهم، وأن (يتعاطى) بِخطابه مع أنواع متعددة من القُرَّاء يَختلفون فهماً وفكراً وثقافةً، ويتباينون اتجاهاً ومذهباً ومنهجا، ولا شكَّ أن (الخطاب) الذي استطاع أن يصل إلى هؤلاء -وهم على هذه الحال- هو(خطابٌ) متميز، لم يكن ليصدر إلا عن (مبدع) متألق مقتدر، لأنه عرف أنه لن يسعد بأي حال من الأحوال أن يظل هذا (الخطاب ) أسيراً في أدراجه، ولن يُسرَّ أن يكون (إنتاجه) رهيناً لعددٍ مَحدودٍ من (المتلقين).
وأحسب أن المناهج النقدية الحديثة استشعرت هذه القضية، وعرفت أنَّ المستقبل الأول لخطاب (المبدع) هو(المتلقي) في الوقت الذي كانت تشجع فيه على (الغموض) والمبالغة في (الانزياح) و(العدول) بشكلٍ مبالغٍ فيه إلى الدرجة التي يكون (النص) فيها مَجموعة من (الطلاسم) و(الرموز) التي ربما لا يفهمها حتى كاتبها، سعياً من هذه المناهج -أوهكذا زعمت- إلى تَحقيق (الأدبية) في (الخطاب) و(الفنية) في (الإنتاج)، لكنها لما استشعرتْ أهمية (القارئ) وأنه ركنٌ ركينٌ في (العملية الإبداعية)، وأنه لا يمكن للمبدع أن يتجاهله أويسقطه من حسابه، وأنه لا فائدة من (إنتاج الدلالة) دون أن يستقبلها (المتلقي) فيحصل
(التفاعل) و(التشارك) - فَكَّرتْ في طريقة تراعي أهمية (المتلقي) وتضعه في مكانه اللائق به، دون أن تغفل في الوقت نفسه السعي إلى حث (المبدع) على الارتقاء بلغة (خطابه) وفنية (أسلوبه)، ولذلك وهبت (السلطة الأدبية) (للقارئ) بعد أن كانت قبلُ (للمؤلف) ومن بعده (للنص)، وهي بهذه الهبة تعطي (القارئ) الحرية الكاملة و(السلطان المطلق) في (القراءة)، بل تجعله هو-وليس غيره- (منتج الدلالة) و(مبدع الخطاب)، وتُقرِّر أنَّ كلَّ (قراءةٍ) يُقدِّمها لهذا (الإنتاج) هي (قراءةٌ) مقبولةٌ ولا غبارَ عليها، وكلَّ (فهمٍ) يفهمُهُ من هذا (الخطاب) هو(فَهمٌ) مُرحَّبٌ به وصحيحٌ لا منازعة فيه، حتى وصل الأمر إلى القول بأنَّ (قراءات) (النص) التي يُقدِّمها (المتلقي) هي قراءاتٌ (لا نهائية)، وأنَّ كلَّ مُحاولة للوصول إلى (الدلالة) هي في الحقيقة عبثٌ لا طائل من ورائه، لأنَّ (المعنى) (مُؤجَّلٌ) دائماً و(مُرجأٌ) باستمرار.
إنَّ هذا المبدأ الذي أرسته بعض المناهج النقدية الحديثة في التعامل مع (طرفي الخطاب) في (العملية الإبداعية) جاء مُحاولةً منها للجمع بين (إرضاء المبدع) و(إرضاء المتلقي)، فأعطت الحرية الكاملة (للمبدع) ليقول ما يشاء، وأن يتفنَّن في (إنتاج الدلالة) دون حدود، وأعطت في الوقت نفسه (المتلقي) السلطان المطلق ليفهم ما يشاء من هذا (الخطاب) الذي يستقبله، وتحتفي بكل (قراءة) يقدمها، بل تعُدُّهُ هو(منتج الدلالة)، وهي بهذه الطريقة تكسب كلا الطرفين حين أشعرت كل واحد منهما بأهمية وجوده في (الممارسة الإبداعية)، وهي تزعم أن هذه الطريقة هي الحل الأمثل لمقاربة هذه القضية النقدية المهمة، وغفلت عن المساوئ التي يمكن أن تنتج عنها، وتناست أنها بذلك تفتح أبواب (الفوضى) على مصراعيها في هذه (العملية)، وأنها تترك (الحبل على الغارب) لكلا الطرفين في (الإنتاج) و(القراءة)، ليظهر أمامنا مَجموعةٌ من (الطلاسم المبهمة) و(الرموز الغامضة) بوصفها (إنتاجاً) إبداعيا، ويظهر إزاء ذلك مَجموعةٌ من (التحليلات الساذجة) و(القراءات) التي لا تعتمد على(نص) ولا (لغة) بوصفها (قراءةً) متميزةً لذلك الإنتاج! إنَّ (مقاربة) هذه القضية تحتاج إلى (عدلٍ) و(إنصافٍ) و(وسطية)، ويَجبُ أن يقوم كلا طرفي الخطاب بدوره في إنجاح (العملية الإبداعية)، وأن يحاول كلٌّ منهما أن يقترب من الآخر بالمسافة نفسها، وألا يعتمد أحدهما على الآخر في فتح (أبواب التواصل) بينهما، بل يجب أن يقوما بذلك معاً، وألا يكون كلٌّ منهما أنانياً في ذلك كما فعل (أبوسعيد الضرير) و(أبوالعميثل) في نقدهما على (أبي تمام)، وكما فعل (أبوتمام) في إجابته لهذا الانتقاد، بل لا بُدَّ أن يسارع كلُّ طرفٍ إلى اتهام نفسه، وأن يفترض مباشرةً إلى أنه هوالسبب في الخلل الذي أصاب (الممارسة الإبداعية)، وأن يتوقع أنه هوالذي لم يقم بفتح (الباب) الخاص به (للتواصل) مع الطرف الآخر.
إنَّ (أحادية النظرة) التي ربما تصدر من أحد الطرفين لا تجدي نفعا، والمسارعة إلى اتهام الآخر بإغلاق (أبواب التواصل) وأنه هوالمتسبب في إلغاء (مواعيد الالتقاء) لن تعود إلا بالفشل، وهي تلك الأحادية التي رأيناها في اتهام الناقدين لأبي تمام وفي انتقاده لهما، ونراها بعد ذلك عند أبي الطيب المتنبي حين يقول:
عَلِيَّ نَظمُ القوافي مِن معادِنِها
وما عَلِيَّ إذا لم تفهمِ (البقرُ)!
وحين أكَّد عليها مَرَّةً أخرى في قوله:
وَكَم مِن عَائِبٍ قَولاً (صَحيحاً)
وَآفَتُهُ مِن (الفَهمِ) السَّقِيمِ!
وغيرها من (الرؤى) التي يطرحها المبدعون التي أرى أنها ترمي بالتهمة على (القارئ) وتبرئ ساحة (المبدع) من التسبب في هذه (الإشكالية) التي تَمنع من التقاء (طرفي الخطاب)، بيد أننا لا ينبغي أن نغفل أن بعض هذه الرؤى ربما كانت صحيحة وفقاً للسياق الذي طُرحت فيه، إلا أن المرفوض هوتعميم هذه (الرؤية) على (القضية) بشكل كامل.
لقد كان لنقدنا العربي القديم (وجهة نظر) عادلة ومنصفة إزاء هذه (القضية) استطاع من خلالها أن يَحسِم بها هذا (الإشكال) القائم فيها، وذلك حين عرَّف أدباؤنا البلاغة بأنها (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، فالمبدع لا يوصف بالبراعة والبلاغة إلا إذا استطاع أن يجعل (خطابه) متناسباً مع (المقام)، و(إنتاجه) منسجماً مع (مقتضى الحال)، ولا شك أن (المخاطب/المتلقي) يدخل دخولاً أولياً في هذا (المقام)، ولم يفت أحد نقادنا القدماء التنبيه إلى هذه القضية حين أشاد بالخطاب الذي يستطيع منتجه الوصول من خلاله إلى جميع المتلقين على اختلاف مستوياتهم، وذلك حين قال: (أحسن الشعر ما فهمته العامة ورضيته الخاصة)، وهي مقولةٌ تُشخِّص واقع هذه (القضية) وتُقدِّم الحلول العادلة لعلاجها، وهوعلاجٌ لن يتم إلا حين يدرك كلا (طرفي الخطاب) أهمية (الطرف الآخر)، ويُقدِّم كلُّ واحدٍ منهما ما يستطيع من (تنازلات) أو(جهدٍ) و(إعمالِ فكرٍ) لتقريب (المسافات)، والوصول (بالممارسة الإبداعية) إلى برِّ الأمان بكلِّ نَجاحٍ واقتدار.
Omar1401@gmail.com
الرياض